فتحت الحالة الجوية المتطرفة التي شهدها عدد من دول مجلس التعاون الأسبوع الماضي، خصوصا عمان والإمارات، وصولاً بدرجة أقل الى قطر والبحرين والمنطقة الشرقية في السعودية، الباب لنقاش ربما غير متداول في المنطقة بشأن أثر التغيرات المناخية على الحياة في منطقة الخليج العربي خلال العقود القليلة القادمة.
فالظاهرة الجوية الشديدة التي شهدتها المنطقة من خلال منخفض «المطير» الجوي قد تمثّل نقطة تحوّل في «سلوك» المنطقة المناخي، إذ تساقطت «قنابل مطرية» توازي كميات أمطار لعامين في يوم واحد، مما قد يفتح الباب لتحولات تتعلق بحياة أبناء منطقة الخليج العربي لسنوات عديدة قادمة، ابتداء بالأضرار في البنى التحتية والمنشآت العامة والخاصة، وحصر المتضررين، مروراً بالأثر المفترض لمثل هذه الظواهر الجوية المتطرفة على البنى التحتية، وتحديدا أنظمة الصرف الصحي وتصميم المدن الخليجية، وصولاً إلى أثر السياسات البيئية على مصدر الثروة الأساسي لمعظم دول الإقليم، وهو النفط والغاز.
حرارة وتكيّف
فمنذ سنوات قليلة بدأ علماء المناخ في الحديث عن مخاطر ارتفاع درجة حرارة الكوكب والأثر المصاحب على أمن الغذاء أو أمن المياه أو حركة السيول والفيضانات والجفاف أو ارتفاع تكاليف الصحة العامة، فضلاً عن الصحة النفسية، فضلاً عن مدى قدرة البشر على التكيف مع معدلات حرارة مرتفعة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالسكن والعمل والصحة العامة، وهو ما أفضى الى اتفاقية باريس للمناخ عام 2015 لمواجهة تغيّر المناخ وآثاره السلبية، إذ تبنت 197 دولة الاتفاقية، التي دخلت حيز التنفيذ بعد أقل من عام، حيث تهدف إلى الحد بشكل كبير من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، والحد من زيادة درجات الحرارة العالمية في هذا القرن إلى درجتين مئويتين.
وحسب دراسة اقتصادية - علمية نشرتها مجلة نيتشر Nature، وهي من أبرز الدوريات العلمية في العالم - فقد تبلغ كلفة التغيّر المناخي على الاقتصاد العالمي 38 تريليون دولار سنوياً عام 2050، أي نحو 20 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لدول العالم، مع الإشارة الى مشكلة ارتفاع درجات الحرارة التي تعدّ من أكبر المشاكل التي تواجه منطقة الخليج العربي حالياً، حيث فاقت درجات الحرارة في المنطقة المعدل المتوسط العالمي، لتتجاوز درجة الحرارة في كل من إيران والكويت وعُمان والسعودية والإمارات 50 مئوية عام 2021. وفي حال استمرت هذه المعدلات، تتوقع الدراسة أن تصبح أجزاء كبيرة من المنطقة غير صالحة للحياة الآدمية بنهاية هذا القرن.
خطاب ومسؤولية
ومع تأكيد أن «الخطاب البيئي» في العالم يبالغ أحيانا في تحميل دول الخليج أو منتجي النفط عموما - دون المستهلكين - مسؤولية نمو انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، الى جانب ارتفاع درجة حرارة الأرض وتنامي معدلات التلوث وتقلّص المساحات الخضراء في العالم، فإن مسألة التغيّر المناخي بحاجة إلى التعامل معها من دون تهويل أو تهوين، بل بشكل مهني عن طريق التوسع في الأبحاث العلمية من خلال مركز الأبحاث والجامعات والمختصين لتقديم الدراسات المعتبرة بشأن آليات التكيّف مع التغيرات المناخية المفترضة ومدى حدّتها ودرجة تطرّفها، وانعكاس هذه الفرضيات على الحياة العامة والصحة وفرص العمل، فضلاً عن استعدادات البنية التحتية وتصميم المدن، وصولاً إلى كيفية المواءمة بين الاعتبارات البيئية والمصالح في إدارة الثروات الطبيعية من النفط والغاز، إضافة إلى مدى استعدادات دول الخليج لتطوير منظومة الطوارئ للتعامل مع الظواهر الجوية المتطرفة، مثل الحرارة والأمطار، والتي تتميز بكونها شديدة التأثير وصعبة التنبؤ.
إنفاق وأبحاث
ولعل الحديث عن أهمية الأبحاث العلمية في التوصل الى حقيقة آثار التغيرات المناخية ومدى تطرّفها خليجيا يستدعي مناقشة اهتمام دول الخليج المختلفة بالبحث العلمي ومدى جودة الإنتاج البحثي في المنطقة، إذ تتفاوت معدلات إنفاق دول مجلس التعاون الخليجي على البحث العلمي، مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي - وهي في معظمها بيانات غير محدّثة - فإن السعودية تنفق 1.5 بالمئة من ناتجها المحلي على البحث العلمي، والإمارات 1.3 بالمئة، وقطر 2.8 بالمئة، وعمان 0.3 بالمئة، والكويت 0.08 بالمئة، والبحرين 0.04 بالمئة، وهذا يعني أن 3 دول خليجية سجلت مستوى إنفاق أعلى من متوسط إنفاق الكويت البالغ 0.8 بالمئة، بينما كانت نسبة إنفاق الكيان الصهيوني (الذي يواجه أزمة وجود مع محيطه، فعرف أهمية البحث العلمي في مواجهة المخاطر) في حدود 5 بالمئة، وغالبا في الترتيب الأول عالمياً من حيث الإنفاق على البحث العلمي، مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي.
ولا يقاس البحث العلمي فقط بجوانب الإنفاق المالي، إنما أيضا بالإنتاج البحثي من جهة عدد البحوث المنشورة في المجلات العلمية، مروراً بنمو أعداد الباحثين سنوياً والتقدم في مؤشرات الابتكار، فضلاً عن مساهمة المؤسسات المستقلة والشركات الخاصة بتقديم البحوث، وهي معايير لا تتوافر مؤشرات قياسها خليجياً بصورة منتظمة، مما يدعو الى إعادة الاهتمام بهذا القطاع وفق معايير علمية ومستدامة.
جدية وجزم
صحيح أنه لا يمكن اليوم الجزم بأن منطقة الخليج العربي قد دخلت حقيقة في تغيّر مناخي مؤكد، إلا أن حالات التطرف في تساقط الأمطار أو ارتفاع درجات الحرارة تستدعي الجدية في رفع درجات التحوط من حيث تبنّي سياسات دفاعية تعطي مجالات للتعامل مع الأوضاع المستجدة، وهذه تتطلب توسّعاً بالأبحاث والدراسات بجديّة لا تهويل فيها ولا تهوين.