في حكم قضائي بارز، أكدت محكمة التمييز الإدارية عدم جواز تحصين القرارات الإدارية الصادرة من الجهات الحكومية، أو التقرير بعدم الطعن عليها أمام القضاء، لأن ذلك يثير شبهة عدم دستورية القوانين المقررة لذلك التحصين أو الحجب عن رقابة القضاء.
وردّت المحكمة في حكمها برئاسة المستشار محمد الرفاعي، على دفاع الحكومة بشأن نهائية قرارات اللجان الطبية المكلفة بالفحص على الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، بأن قراراتها تخضع لرقابة القضاء وقابلة للطعن عليها.
وقالت إن مصطلح الأشخاص ذوي الإعاقة الوارد في القانون يشمل كل من يعانون عاهات طويلة الأجل، بدنية أو عقلية أو ذهنية أو حسية، قد تمنعهم لدى التعامل مع مختلف الحواجز من المشاركة بصورة كاملة وفعالة في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين.
ولفتت إلى أن صاحب كل اعتلال دائم كلي أو جزئي يؤدي إلى قصور قدراته البدنية أو العقلية أو الحسية قد يمنعه من المشاركة بصورة كاملة أو فعالة في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين، هو صاحب إعاقة.
وذكرت أن فاقد الإبصار بإحدى العينين هو صاحب اعتلال دائم، وليس أدلّ على ذلك من نهج التشريع الكويتي - منذ البواكير - في إدراج هذه الحالة بجدول الديّات الملحق بالقانون المدني، إذ نص في المادة الثانية من المرسوم الخاص بلائحة جدول ج- فقد أو فقء إحدى الديات على أن «يستحق نصف الدية عن أ -.....، ب-....، ج- فقد أو فقء إحدى العينين المبصرتين، ويعتبر في حكم قطع أو فقد العضو الفقد الدائم لوظيفته، كما أنه لا جدال في أن هذا الشخص قد يمنعه اعتلاله من الحصول على ذات فرص الأصحاء في مختلف شؤون الحياة، فلا تكون له ذات الفرصة في التقدم للكليات العسكرية، أو تلك التي تتطلب قدرات بدنية ليس هو من أصحابها، كما من شأنها حرمانه من بعض الوظائف التي تتطلب هيئة معيّنة لشغلها ليس هو عليها، فضلاً عن تأثير ذلك على كامل فرصته في العلاقات الاجتماعية كالزواج وغيره، أو ممارسة بعض الأنشطة الرياضية وغيرها من مناحي وصنوف الحياة الأخرى التي لا يتّسع المجال هنا لحصرها، وخلاصة القول، إن هذا الاعتلال قد يمنع صاحبه من المشاركة بصورة كاملة وفعالة في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين.
تحديد درجة الإعاقة
ولفتت المحكمة إلى أنه لا يقدح في ذلك ولا يغيّره التذرّع بأن اللجنة الفنية الطبية المختصة التي عهد إليها المشرّع بتحديد من هو الشخص ذو الإعاقة هي المختصة دون غيرها بالنظر في هذا الأمر وتحديد درجة الإعاقة بلا معقّب عليها من أي جهة في ذلك، فهو مردود أولاً: أن مبنى المسألة المعروضة يتعلق بفهم وتفسير النصوص التشريعية، وبالتالي هي مسألة قانونية بحتة وليست فنية - مما يتسع له اختصاص اللجنة الفنية - هذا الى جانب أن الاعتراف بالسلطة الفنية التقديرية للإدارة (اللجنة الفنية المختصة) لا يعني الاعتراف لها بسلطة تحكمية مطلقة لا تخضع لأية رقابة، إذ أن هذه السلطة المطلقة لا وجود لها في الواقع ولا يمكن الاعتراف بها لأية جهة، لأنّ السلطة التقديرية تتقيد دوماً بالمصلحة العامة وبالضمانات التي يقررها القانون لأصحاب الحقوق المستمدة من المراكز القانونية المشروعة.
وأضافت: وفضلاً عن ذلك، فلو فرضنا جدلاً صحة هذا الفهم وسلامة ذاك الفكر الذي يرسّخ لسلطة اللجنة الفنية كسلطة مطلقة لديها الحل والعقد، لكان في ذلك افتئات وتغول على سلطة القضاء وحرمان للخصوم من حق التقاضي، ويضاف على النصوص التي تزعم الجهة الإدارية أنها ترشّح لذلك المفهوم شبهة عدم الدستورية، إذ أن المشرّع بتقريره عدم إخضاع بعض القرارات للطعن فيها، يكون قد حصّنها وحجب القضاء عن نظرها، مما يمثّل إخلالاً بحق التقاضي الذي كفله الدستور في المادة 166 منه، التي تنص على أن «حق التقاضي مكفول للناس، ويبين القانون الإجراءات والأوضاع اللازمة لممارسة هذا الحق»، وذلك لما فيه من حرمان الناس من حق التقاضي والحيلولة بين أصحاب الشأن وبين الالتجاء إلى قاضيهم الطبيعي، كما أنه غنيّ عن البيان أن من المسلّم به - كأصل عام أنه لا يكفي تقرير الحقوق للأفراد دون أن يقرن ذلك بحقهم في المطالبة بها والذود عنها وحمايتها والدفاع عنها بالتقاضي بشأنها، وأن هذا الحق إنما هو مستمد من المبادئ الأولية للجماعة منذ أن نظمتها نظم وأوضاع قانونية، وقد تضمّنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما لم يخلُ دستور من دساتير العالم من النص على هذا الحق، وبالتالي، فإن كل مصادرة لحق التقاضي تقع باطلة، ومنافية لمبادئ حقوق الإنسان، ومخالفة للأصول الدستورية وقواعدها العامة، والمستفاد من هذا المبدأ هو حظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو تصرّف أو أي قرار إداري تتخذه الجهة الإدارية في إطار مباشرتها لنشاطها العام من رقابة القضاء.
وأوضحت المحكمة أن الدستور تضمن النص في المادة 29 منه أن الناس لدى القانون سواء، وأنهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، ولما كان حق التقاضي من الحقوق العامة التي كفل الدستور المساواة فيها بين الناس أجمعين، فإن حرمان طائفة معيّنة من هذا الحق مع تحقق مناطه، وهو قيام المنازعة على حق من حقوق أفرادها، ينطوي على إهدار لمبدأ المساواة بينهم وبين غيرهم من الأفراد الذين لم يُحرموا من هذا الحق، ولا ريب في أنه إذا حدد الدستور وسيلة معيّنة هي المطالبة القضائية للوصول إلى الحق تعيّن التزام هذه الوسيلة، ولا يجوز للسلطة التشريعية أن تهدرها.
الفصل في الخصومات القضائية
وتابعت: والدستور إذ أنشأ السلطة القضائية وأسند إليها الفصل في الخصومات القضائية وإقامة العدل بين الناس في حيدة وتجرّد مستقلة عن بقية السلطات الأخرى، فإنّه لا يتأتى للسلطة القضائية أن تباشر هذه الوظيفة التي أسندها إليها الدستور، إلّا إذا تمكّن الأفراد من ممارسة وسيلة المطالبة القضائية، لاسيما أنها لا تختص بإنزال حكم القانون إلا في منازعات ترفع إليها من أصحاب الشأن، وينبني على ذلك أن كلّ تقييد لوسيلة المطالبة القضائية هو في حقيقته تقييد لوظيفة السلطة القضائية في مزاولة اختصاصها، بما ينطوي عليه ذلك من تعارض مع مبدأ فصل السلطات المنصوص عليه في المادة 50 من الدستور، وإهدار للحقوق ذاتها التي كفلها الدستور، فضلاً عن أنه ليس من شأن النص في المادة 164 من الدستور على أن يرتّب القانون المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، ويبيّن وظائفها واختصاصاتها، الذي ينصرف إلى تخويل المشرع اختصاصاً في توزيع العمل بين المحاكم وتقسيمه بحسب نوعه وطبيعته، وما يرتبط بذلك من بيان لاختصاصاتها وفقاً لما تقتضيه مصلحة العمل ودواعي المصلحة العامة، ليس من شأن ذلك أن ينسحب إلى تخويل السلطة التشريعية في عزل القضاء عن ممارسة اختصاصه الأصيل بنظر الخصومات القضائية أو تعطيل وظيفة السلطة القضائية، أو حجب الوسيلة القضائية عن الأفراد التي يمكن من خلالها حماية حقوقهم وحرياتهم، وفوق هذا وذاك، فإن القول بالاختصاص المطلق للجنة الطبية المشار إليها فيه تقويض للاتفاقية الدولية ذاتها سالفة البيان التي ألزمت الدول الأعضاء في المادة 13 منها، تحت عنوان «إمكانية اللجوء إلى القضاء».
الاتفاقية الدولية والتشريع المحلي
وقالت المحكمة: إنه لا يدخل في اختصاص عمل اللجنة تحديد نطاق تطبيق هذا القانون، وذلك لسببين، أولهما أن المشرّع في الاتفاقية الدولية، والتشريع المحلي قد حددا مفهوم الإعاقة، ومن ثم ما كان لجهة أخرى دونهما التدخل في ذلك، وثانيهما أن هذه المسألة لم تكن محل تفويض من المشرع الى أي سلطة أدنى، وما كان لها أن تكون محل تفويض من المشرع بعد أن حددها تحديداً جامعاً مانعاً يغني عن أي بيان آخر بأن وضع معيارين يكفي توافر أحدهما على ثبوت الإعاقة، أما تحديد نوع الإعاقة من حيث إنها (بصرية أو سمعية أو جسدية أو حركية أو ذهنية أو نفسية أو تعليمية أو تطورية)، ودرجة هذه الإعاقة من حيث إنها بسيطة أو متوسطة أو شديدة، فهي من الأمور الفنية الموكول أمرها إلى اللجنة الطبية الفنية السالفة الذكر، تحت رقابة المحاكم.
وبينت المحكمة أن المقرر، في قضائها، أن قيام قضاء إداري يختص بنظر الخصومات الإدارية، مزود بولاية إلغاء القرارات الإدارية المخالفة للقانون، وولاية التعويض عنها، هو ركن أساسي في النظام الدستوري، وقد تضمنه نص صريح في المادة 169 من الدستور، محدداً بذلك الوسيلة القضائية للمطالبة القضائية، دعماً للضمانة الأصيلة التي يحققها للأفراد إذا تحيفت بهم تلك القرارات، وكانت ما تصدره اللجنة الفنية المختصة بالهيئة العامة لشئون ذوي الإعاقة من قرارات - بوصفها الجهة القائمة على تحديد المعاقين ودرجة إعاقتهم - وكانت رقابة المحاكم على نحو ما سلف بيانه تنبسط على القرارات الإدارية المطعون فيها، استظهاراً لمدى انضباطها داخل أطر الشرعية، وذلك بوزنها بميزان القانون ومقتضيات المشروعية التي تتمثل فيها المصلحة العامة، ويتحقق بها استقرار النظام العام، فإذا تبيّن للقضاء الإداري استواء القرار صحيحاً أجازه وثبّته على أصل صحته، أما إذا تبين له اختلال أحد أركانه أو مجاوزته مقتضيات المشروعية ألغاه وأزال آثاره، وهي رقابة تقف عند حدها الطبيعي بما ليس فيه تغوّل على سلطة تلك اللجنة أو الحلول محلها فيما تترخص فيه وتستقل بتقديره، مادام قد خلا تقديرها من أي ضرب من ضروب إساءة استعمال السلطة.