ثورة إنسانية
يقول الفقيه الكبير الإسلامي الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي، في وصف النبي ﷺ في الثائر الحق، «ويأتي الرسول وكأنه ثورة على الطغيان والفساد، لذلك يتمسك به الضعفاء ويفرحون، وتلتف قلوبهم حوله، أما المنتفعون بالفساد فيقولون إن أتباعك هم أراذلنا».
استعدت هذه الكلمات التي كانت خاطرة من خواطر فضيلة الشيخ الراحل، وأنا أتابع بالبحث والتحليل والتمحيص، ما جرى في القرن السادس الميلادي، من نزول القرآن الكريم على سيدنا محمد ﷺ هدى للعالمين، وما قام به آخر الأنبياء والرسل، باعتباره داعيا ومبشرا ونذيرا، بثورة الحق والعدل والحرية والمساواة والإخاء، على الظلم والطغيان في العالم كله، وهو ما سطرته في مقالات سابقة على هذه الصحفة، ورأيت في هذا المقال المنشور اليوم أن أرد الفضل إلى أهله، فقد سبقني إلى وصف الإسلام بالثورة الشيخ الجليل الشعراوي، وإن قالها على استحياء، «وكأنها ثورة» ولكنها- في رأينا- كانت ثورة حقيقية، لا حكما أو مجازا وإن اختلفت عن باقي الثوارت عبر التاريخ في أنها صدرت بأمر إلهي، وما كانت الأوامر الإلهية مصدرا لأي ثورة من هذه الثورات، كما أنه في تشبيهه المجازي كان متأثرا بفقه الإسلام، وهو الأعظم في استنباط الأحكام على مستوى الفقه المقارن كله، وإن كان فقهنا الإسلامي قد ابتعد ما أمكنه ذلك عن شؤون الحكم، مؤثراً السلامة، وقد وجد ضالته في السمع والطاعة للحاكم، وفقا لتفسير الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ»، فضل طريقه عن المقصود من هذا النص القرآني.
ديموقراطية إنسانية
وكما أسفرت الثورات على الملوك حصاداً مراً أحيانا بتحول الثوار إلى طغاة، فنشأت النازية والفاشية، وغيرهما من الحكومات الأوليغارسية والعسكرية، وحصادا طيبا أحيانا أخرى، بأن تحكم الشعوب نفسها بنفسها من خلال ممثليها الذين انحرف الكثيرون منهم عن أهداف ثوراتهم، فإن هذه الثورات جميعها لم تجاوز أهدافها، العدل السياسي، الى تحقيق العدل الاجتماعي، فكان هذا أبعد من أن تحققه ثورة من هذه الثورات، سواء كانت قد قامت بها القلة الأرستقراطية، أو النخبة، أو الطبقة العاملة، لأنها لم تكن جميعها ثورة إنسانية كالثورة الإسلامية التي قام بها الجميع من أسياد وعبيد، ومن كل الأجناس والأطياف والألوان، فكانت الديموقراطية نبتتها الأولى في الإسلام، ديموقراطية إنسانية، وهو الوصف الذي أطلقه عليها الأديب الكبير الراحل عباس محمود العقاد، حيث يقول «إن الديموقراطيات قديمها وحديثها لم تقم على الحق الإنساني المعترف به لكل إنسان، وإنها كانت إلى الضرورة العملية أقرب منها إلى المبادئ الفكرية والأصول الخلقية، بل كانت في اليونان القديمة من قبيل الإجراءات أو التدابير السياسية التي تنفي الفتنة، وللاستفادة من جهود العامة في أوقات الحرب على الخصوص، ولم تكن هذه الثورات والديموقراطيات إلا ثورات وديموقراطيات سياسية أما الديموقراطية في الإسلام فكانت ديموقراطية إنسانية تقوم على الاعتراف بحقوق الإنسان (عباس محمود العقاد- الديموقراطية في الاسلام– دار المعارف بمصر)، فالثورة الإسلامية كانت الأولى من بين الثورات التي قامت على أساس حقوق الإنسان، وكانت ثورتها ثورة إنسانية.
ويضيف د. طه حسين عميد الأدب العربي الراحل إلى ذلك «إن الإنسانية سلكت في سبيل الحكم الصالح كل الطرق، وجربت كل النظم، فلم تنته إلى غاية... تضمن للناس الحرية والعدل جميعا... وهذا النظام القويم هو الذي حاولت الخلافة الإسلامية لعهد أبي بكر وعمر أن تنشئه، فمات أبو بكر، رحمه الله، ولم يكد يبدأ التجربة، وقتل عمر رحمه الله، وقد خطا بالتجربة خطوات واسعة، لكنه لم يرض عنها، فقد رُوي عنه أنه كان يقول في آخر خلافته، لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء، فقد رأى عمر أنه لم يبلغ من تحقيق العدل الاجتماعي ما كان يريد، فكيف ولم يعرف المسلمون ولا غير المسلمين أميراً حاول من العدل ما حاول عمر، وحقق منه ما حققه عمر، رضي الله عنه». (د. طه حسين – الفنتة الكبرى – عثمان - دار امعارف – ط الحادية عشرة 1996 – ص8).
ومع كل التقدير لعميد الأدب العربي ولما نهلناه ونهلته الأجيال من علمه الغزير، وأطروحاته فيما كتبه في، الوعد الحق، ومرآة الإسلام، والشيخان (أبوبكر وعمر) وغيرهما، فإننا ننبه إلى زلة قلم وقع فيها سيادة العميد الراحل، في قوله «وهذا النظام القويم- الذي يضمن للإنسان الحرية والعدل جميعها- حاولت الخلافة الإسلامية لأبي بكر وعمر أن تنشئه) ذلك أن هذا النظام القويم، الذي يجمع بين الأمرين، قد نزل به القرآن الكريم، وطبق في عصر النبوة، فلم تحاول تجربة أبي بكر وعمر إنشاءه بل تطبيقه.
هولوكست فلسطين والنازية الجديدة
استعدت الثورة الإسلامية، الإنسانية، وأنا اتابع الفداء الذي قدمه أبطال حماس في السابع من أكتوبر، وحتى هذه اللحظة في إصرار وتصميم على عدم الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين إلا بعد وقف الحرب على غزة، أو بالأحرى وقف هولوكست غزة، والعالم يتابع مجزرة ومذبحة غزة، أو هولوكست الفلسطينيين، على يد النازية الجديدة (إسرائيل) والعالم يرى ويسمع كيف ازداد تمسك الضعفاء من الفلسطينيين بحماس وهم يتساقطون بالعشرات كل ساعة، شهداء يروون بدمائهم، الأرض الطيبة، التي احتلها الغاصبون، وتلتف قلوبهم كل يوم وكل ساعة حول أبطال حماس، أبنائهم وإخوانهم، والعالم يتابع حياة الفلسطينيين المطحونين بطغيان الآلة العسكرية الإسرائيلية وطغيان الترسانة العسكرية الغربية التي تمد إسرائيل بالأسلحة والمال، وقد أقر الكونغرس الأميركي (95) مليار دولار أميركي، مساعدة لكل من أوكرانيا وإسرائيل في حربهما، مع اختلاف المعايير والمقاييس بين الحربين، إلا أن ما يجمعهما هو هيبة الإمبريالية العالمية الغربية التي سقطت في آتون هاتين الحربين.
وفي هذا الساق يسعدني توجيه تحية إلى المواطن السعودي ماهر موصلي، على الفيديو الذي نشره على حسابه في اليوتيوب، والذي أجرى فيه مقارنة بين جرائم النازية الجديدة (إسرائيل) في حق الشعب الفلسطيني، وجرائم هتلر النازية في حق اليهود، قبل قيام «تويتر» بحذف هذا الحساب.
العقيدة الدينية
ويجمع بين حماس والثورة الإسلامية التي قادها سيدنا محمد ﷺ، هذه القلة القليلة من أبطال حماس، الذين أيقظوا العالم كله على ثورة الضعفاء في فلسطين، كما أيقظ أحد عشر عربيا من مكة الذين آمنوا بالثورة الإسلامية في مهدها التي قادها النبي ﷺ، ليظهر العالم كله على الدين الجديد.
كما يجمع بين القلة القليلة من أبطال حماس في طوفان الأقصى بالقلة القليلة من المؤمنين بدعوة محمد ﷺ، والذين قادهم محمد ﷺ في أعظم ثورة في تاريخ الثورات، العقيدة الإسلامية، كما جاء بها القرآن الكريم قال تعالى «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا» (الأحزاب 36).
اما المنتفعون بالفساد من أبناء هذه الأمة والذين ضعف إيمانهم بقضاء الله، والذين تجمعهم في الهجوم على حماس واتهامها بأنها سبب هذا الابتلاء في غزة، تجمعهم حظيرة الدفاع عن مصالحهم وأموالهم التي حصلوا عليها بالباطل، بالتقرب من الحكام، والدفاع عن صمتهم على هولوكست غزة، وقد بات هؤلاء وأولئك معزولين عن شعوبهم، بل عن ضمير أمتهم، بل ضمير شعوب العالم أجمع.
وللحديث بقية عن حقوق الإنسان في الثورة الإسلامية الإنسانية.