كولومبيا تنتفض لغزة وفلسطين ثم تنتقل الاعتصامات وينتشر الطلبة من خلفيات مختلفة دينياً وعرقياً وثقافياً وطبقياً، حيث إن رمزية كولومبيا أنها جامعة النخبة، فالطلبة ينحدرون من شريحة مجتمعية تعد الأغنى، وهي أيضاً الأكثر قرباً من الصهاينة، حيث تقوم باستثمارات لمصلحة إسرائيل.
من كولومبيا تمتد الانتفاضة إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة بوسطن وجامعة إيمرسون وجامعة هارفارد وييل وبرنستون وماريلاند ونورث كارولينا ميشيغان ومينسوتا وواشنطن وتكساس دالاس، وتكساس أوستن، وتكساس أرلنغتون وغيرها من الجامعات المرموقة والعريقة، وكثير منها عرف بكونه الأقرب أو الممول من مؤسسات صهيونية أو مؤيدة لها، ثم ما لبثت الاعتصامات أن انتقلت إلى الطرف الآخر من المحيط الى فرنسا في ساينس بو وبريطانيا وبعض الجامعات في دول أوروبية، ولم تتوقف عند ذلك بل امتدت الى أستراليا.
الصورة الأولى لطلبة جامعة كولومبيا وهم معتصمون في حرم جامعتهم منددين بالإبادة في غزة وكل فلسطين ومطالبين بإيقاف كل النشاطات والتمويل المرتبطة بإسرائيل بما في ذلك برنامج التبادل مع جامعة تل أبيب، إلى هنا يبدو المشهد مبهجاً، وربما معبراً بشكل أو آخر عما يدعيه الإعلام الأميركي والسياسيون أيضا من احترام حرية التعبير والحق في التظاهر والاعتصام، حتى قامت رئيسة الجامعة وهي من أصول عربية إلى الدعوة للمرة الأولى حسب الإعلام الأميركي نفسه، الى استدعاء الشرطة لاعتقال الطلاب المحتجين في انتهاك لتلك الحقوق التي يتندر بها الأميركيون ويلقنون العالم دروساً بناء عليها!! وأيضا لحرمة الجامعات.
ربما لم تتوقع رئيسة الجامعة نعمت شفيق أو حتى الكثير من المعلقين السياسيين والباحثين أن مثل هذه الحركة ستؤدي الى ما يشبه ثورة في الجامعات الأميركية تضامنا مع طلاب كولومبيا، ربما ناسين أو متناسين كم كانت حركة الجامعات في أميركا الستينيات مؤثرة في وضع نهاية للحرب على فيتنام، وكذلك تأثير الحركة الطلابية في فرنسا 1968 على دور الطلاب في العالم للدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان وكرامة البشر دون تمييز للون أو عرق أو دين.
وما زلنا نتابع تداعيات التحرك الأول في كولومبيا على العالم بل على طلاب العالم، وهنا لا نستطيع أن نمنع السؤال الذي انتشر هو الآخر بين كثير من المغردين والإعلاميين والمؤثرين: «أين الجامعات العربية من كل هذا التحرك وغزة أقرب لهم ووجعها يلامس أيامهم ولياليهم؟»، تبدوالإجابة بحاجة لدراسة مطولة حول ما جرى للمجتمعات العربية من تجريف وتخويف وقمع للأصوات المختلفة أينما كانت سواء بين الطلبة في الجامعات، حتى العريقة منها، أو بين المثقفين أوالفنانين أو الموسيقيين أو المطربين أو كل الفئات المعنية والمؤثرة، ولكن لا نستطيع أن ننكر أن خيبتنا كبيرة في جامعاتنا وطلابنا كما سبقهم مثقفو العرب وشعراؤهم خاصة منهم من يعملون ليل نهار على كسب ود الرجل الأبيض، وعلى أن توضع أسماؤهم مع الكتّاب والباحثين هناك حتى لو كان أولئك مستخفين بهم وبتاريخهم بل معادين لهم ومكرسين سردية مخالفة تمام للحقيقة التاريخية.
ثم هناك سؤال آخر بعيد عن الطلاب في جامعاتنا المنتشرة بأساتذتها خريجي تلك الجامعات الأميركية والأوروبية العريقة نفسها، مثل يل وهارفارد: فماذا فعلت بهم تلك الشهادات، بل سنوات الخبرة في حرم الثقافة والوعي والبحث العلمي؟ فالجامعات ليست مباني عريقة وأسماء كبيرة، بل هي مراكز بحثية في عمق وعي البشر، وهي منارات تفتح نوافذ الكون وأبوابه على عقول مرتاديها.. أليس كذلك؟ أين هم الأكاديميون حتى منهم من كانوا قبل سنين من أهم من بحث في التاريخ الاجتماعي لأوطانهم وبلدانهم؟ أين هم الآن؟ بعضهم يكتب أو يُكتب له مقالات هنا وهناك لتبرير الإبادة في غزة ربما دفاعا عمن يدفع له أو حتى التظاهر بأنهم ضد الإرهاب الديني أو تبريرات أخرى باهتة مثلهم الآن، أي مثلهم بعد أن تحولوا إلى مجرد أدوات أو توابع!!
كثيرون يتساءلون عن العرب الموجودين في تلك الجامعات أو على رأسها أو حتى الآخرين الذين احتلوا مناصب متقدمة فيها أو في المنظمات الدولية أين هم؟ ألم يستقل بعض العاملين في وزارة الخارجية الأميركية احتجاجا أو اعتراضا على موقف حكومتهم ودعمها لإسرائيل والإبادة؟ أين العرب من هؤلاء؟ في معظمهم كما تكشف الحقائق كما رئيسة كولومبيا سعوا سنين عدة لإرضاء صناع القرار في تلك الجامعات، والمنظمات، والهيئات البحثية أو المؤسسات الإعلامية وكأنهم يقولون لهم «نحن معكم بل مثلكم وربما أكثر»، هم من أصبحوا ملكيين أكثر من الملك، وهم من قدموا كل شهاداتهم وبحثهم وكرامتهم وحريتهم أيضا ليحصلوا على منصب يتباهون بها بين أهلهم ويقوم إعلامنا أو بعضه المريض بالتبعية أو الانتهازية، بتمجيدهم ليصبحوا القدوة لشباب اليوم.
ها هي جامعات أميركا تشعل الشرارة كما فعل الطلاب في الستينيات ضد الحرب على فيتنام يقوم أحفادهم بالثورة على الحرب على فلسطين رافضين الإبادة في غزة وكل الأرض الفلسطينية في حين طلابنا مهمومون بـ«تك توك» أو غرس الرؤس في الرمال أو التبرير بالسؤال المكرر: «ماذا نستطيع أن نفعل في مجتمعات مغمسة بالقمع وانتهاك الحريات؟»، وما نستطيع سوى الرد بسؤال على السؤال: «ألم تروا كيف قمعت الشرطة في كل العواصم التي تدعي الديموقراطية وحقوق الإنسان أبناءها من الطلاب وأساتذة الجامعات؟»، فكم البطش الذي مارسته الأجهزة الأمنية في أميركا وبعض الدول الاخرى يذكرنا بمواقف عشناها في شوارع مدننا على أيدي رجال الأمن، فقد أسقطت غزة كل الأقنعة للمرة الألف نقولها حتى ذاك الغشاء الذي غطى بعضهم عورتهم به بادعاءات أنهم معقل محصن للدفاع عن حقوق الإنسان وحرية التعبير... مثير ما يحدث من تغيير في العالم إنه سقوط كل النظام القديم بمجمله، وقد يبني هؤلاء الطلبة أو يمهدون الدرب لنظام جديد أكثر عدالة وحرية.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.