بايدن وعمال أميركا
في الأسبوع قبل الماضي صوَّت العاملون في مصنع شركة فولكسواغن بمدينة شاتانوجا في ولاية تينيسي الأميركية بنسبة ثلاثة إلى واحد تقريبا للانضمام إلى نقابة عمال السيارات المتَّحدِين (يونايتيد اوتو ووركرز).
من حيث العدد لم يكن ذلك شيئا عظيما، فهو يتعلق بآلاف قليلة فقط من العمال في اقتصاد يوظف 160 مليون نسمة تقريبا لكنه كان انتصارا رمزيا مهمَّا لحركة عمالية لم تحقق أبدا حتى في أيام مجدِها تقدما مهما في الجنوب الأميركي.
وليس من السخف تخيل أن المؤرخين في يوم ما سيعتبرون تصويت شاتانوجا معلَما في طريق العودة الى ما كان يمكن أن يوصف بأميركا «مجتمع الطبقة الوسطي» تقريبا.
بالطبع نحن (في الولايات المتحدة) لم نكن أبدا مجتمعَ مساواة، حتى أثناء حقبة الازدهار الذي اقتُسمَت ثمارُه على نطاقٍ واسع بعد الحرب العالمية الثانية كان يوجد العديد من الأميركيين الفقراء خاصة الملوَّنين وقلة من الأثرياء جدا، لكن بمقياس الدخل والثروة كانت الولايات المتحدة وقتها بلدا أقل مساواة إلى حد بعيد من الآن، يمكن حساب ذلك كمّيا باستخدام المقاييس الإحصائية مثل مكافئ «جيني» أو نسبةِ أعلى دخلٍ إلى أدنى دخل.
ويمكنني باعتباري شخصا نشأ وترعرع في ذلك العهد أن أشهد بأن أميركا كانت تبدو مثل بلدٍ يعيش الناس فيه عند مستوى مادي متماثل تقريبا لكنها يقينا لا تبدو كذلك الآن.
المسألة هي أن ذلك المجتمع المتساوي نسبيا لم يتطور تدريجيا، فقد ظهر هيكل الأجور المتساوية نسبيا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في سنوات الأربعينيات فجأة كما أوضحت ذلك كلوديا غولدن (التي حصلت على جائزة نوبل في الاقتصاد العام الماضي) في ورقة شهيرة حول التفاوت الحاد بين الدخول أعدتها بالاشتراك مع روبرت مارغو في عام 1992 تحت عنوان «الضغط العظيم». كانت ضوابط الأجور والأسعار أثناء الحرب قوة لصالح المساواة، لكن المساواة الجديدة استمرت عقودا بعد إزالة تلك الضوابط.
التفسير الأكثر احتمالا للتحرك الفجائي والمطَّرد نحو المساواة النسبية كان شيئا آخر حدث فجأة لكنه استمر، إنه صعود نقابات العمال التي كانت بحلول أواخر الأربعينيات تمثل أكثر من 30% من العمال الأميركيين وظلت قوية حتى سنوات الثمانينيات، النقابات القوية أيضا قوة للمساواة لأنها ثِقَلٌ موازنٌ لكل من القوة السوقية للشركات الكبيرة والقوة السياسية للمال الوفير، وتدهور النقابات التي كانت تمثل حوالي ربع العمال في عام 1980 قبل أن تتهاوى وتسقط من عَلٍ عاملٌ رئيس في ظهور العصر المُذَهَّب الجديد (عصر الثراء الشديد واللامساواة الحادة) الذي نعيش فيه الآن.
لماذا تدهورت النقابات؟ من المُغري افتراض أن ضعفها حتمي في مواجهة التنافس العالمي وهبوط حصة الصناعة، وهي معقلها التقليدي، من الوظائف، لكن اقتصادات متقدمة أخرى لا يزال فيها تنظيم نقابي قوي، ففي الدنمارك والسويد على سبيل المثال نحو ثلثي العمال أعضاء في نقابات.
إذاً ما الذي حدث في أميركا؟ التفسير الأكثر معقولية أن المخدِّمين بداية من السبعينيات صاروا أقوى شكيمة في محاربة جهود التنظيم النقابي واستَقووا في ذلك بمناخ سياسي كان الجمهوريون فيه معادين للتنظيم النقابي خصوصا بعد انتخاب رونالد ريغان عام 1980 والديموقراطيون في أحسن الأحوال يؤيدونه في استحياء.
ولم يعد في مقدور بعض النقابات الموجودة وأشهرها في ذلك نقابة مراقبي الحركة الجوية أداء عملها النقابي، وما هو أكثر أهمية أن التنظيم النقابي لم ينتشر ويتغلغل في الولايات المتحدة مع تحول اقتصادها باطراد إلى اقتصاد خدمات.
وليس هنالك سبب اقتصادي أساسي في الماضي أو الحاضر يمنع معظم العاملين في شركات توظيف عملاقة مثل وول مارت أو أمازون من تنظيم أنفسهم نقابيا، لكن هذه الشركات صارت عملاقة في حقبة كان المخدِّمون فيها عمليا أحرارا في فعل أي شيء يعرقل جهود منظمي النقابات وفي بعض الحالات اضطهادهم.
وهذا ما سيقودنا إلى اللحظة الراهنة التي قد تكون نقطة تحول، وفي هذا الوقت بالذات هنالك قوتان تعززان قدرة العمال على المساومة، إحداهما ضعف الطلب في سوق العمل (عدد الوظائف المتاحة أكثر من عدد طالبيها- المترجم.) لقد مررنا لتوِّنا بأطول فترة ظل فيها معدل البطالة أقل من 4% منذ سنوات الستينيات، وربما هذا الضعف في الطلب بسوق العمل هو السبب الرئيس لتقلص الفجوة بين الأجور في السنوات الأخيرة مع ارتفاع الدخول الدنيا بسرعة أكبر كثيرا من الدخول العليا.
السبب الآخر هو التحول في المناخ السياسي يمكن القول إن بايدن الذي انضم إلى اعتصام نقابة عمال السيارات المتحدين (يونايتد أوتو ووركرز) في ميشيغان في شهر سبتمبر هو الرئيس الأميركي الأشد انحيازا للعمل منذ هاري ترومان، وهذا ينطوي على أكثر من إشارة، ففي يوم الثلاثاء قبل الفائت على سبيل المثال أصدرت لجنة التجارة الفدرالية حظرا على (تضمين عقود العمل) معظم بنود عدم المنافسة التي تمنع موظفي الشركة من العمل لدى الشركات المنافسة، مثل هذه البنود تغطي حاليا نحو 30 مليون عامل تقريبا وشكلت قوة كبرى في تقليل المنافسة في سوق العمل.
هنالك إذاً سبب وراء حصول بايدن على مباركة مبكرة ومتحمِّسة من النقابات الكبيرة بما فيها نقابة عمال السيارات المتحدين في يناير وفي الأسبوع الماضي على تأييد نقابات عمال البناء التي تمثل نحو 3 ملايين عامل في الولايات المتحدة وكندا.
لكن هل تحسن حقا وضع العمل في الولايات المتحدة؟ لسوء الحظ من اليسير أن نرى كيف يمكن التراجع عن التقدم الذي تحقق مؤخرا، فضعف الطلب في سوق العمل قد لا يستمر، وحتى الآن لم يكترث اقتصاد بايدن بكل تلك التوقعات الواثقة بحدوث انكماش، لكن الحال لن تكون كذلك دائما.
من الممكن بالطبع أن يخسر بايدن الانتخابات الرئاسية في نوفمبر، وعلى الرغم من أن ترامب يصور نفسه كشعبوي فإن سِجِلَّه يوضح عداءه للنقابات، لذلك لن نعلم لبعض الوقت ما إذا كانت الأمور تتحسن فعلا بالنسبة إلى العمال الأميركيين.
* بول كروغمان