تقرير اقتصادي: تجذُّر الفوضى الحكومية... أزمة مرعبة!
غموض فني واقتصادي ودبلوماسي تجاه ميناء مبارك... وتهاون إزاء توقُّف جهاز المناقصات
• ديوان الخدمة يناقض توجهات «المالية» في «غلاء المعيشة» بشأن ضبط المصروفات والتأمينات
يبدو أن القطاع التنفيذي في البلاد قد مسّه الكثير من الضرر نتيجة حالة عدم استقرار الإدارة العامة من جهة انتخاب 4 مجالس تشريعية، وتكليف 4 رؤساء وزراء خلال 4 سنوات، في مشهد نادر الحدوث، ليس فقط مقارنة بتاريخ الكويت إنما أيضاً بدول العالم، وهو ضرر يبدو أنه أخذ في التجذر بشكل مخيف بطريقة تتضح أكثر فيما تعيشه الكويت حالياً من فجوة انتقالية بين حكومتين، الأولى تتولّى تصريف العاجل من الأمور، والثانية مرتقبة في انتظار تشكيلها، فقد كانت الإدارة التنفيذية خلال السنوات الماضية، ولا تزال، عرضة للتقلبات والتغيرات المفاجئة بشكل تزامن فيه غياب القياديين مع تسارع تغيير الوزراء، بكل ما يصاحب ذلك من شلل في إدارة الدولة، وما ينتج عنه من إخفاقات أو انحرافات ليس عن المقاصد السليمة، بل حتى عن الأدبيات الاقتصادية الحكومية.
وبينما يشهد القطاع التنفيذي في البلاد أزمة إدارية غير مبررة، متمثلة في العدد الضخم من المناصب القيادية الشاغرة، مما يستوجب إعادة هيكلة بعضها وتسكين بعضها الآخر، فقد بات في الفترة الماضية إما عاجزاً عن التعاطي مع أي حدث طارئ أو تطور استثنائي أو معالجة تناقض حكومي - حكومي صارخ، وهو ما تبيّن خلال الأسابيع القليلة الماضية في التعامل التنفيذي مع 3 مشاهد، هي: الموقف المستجد لميناء مبارك الكبير، والسلبية تجاه توقف أعمال الجهاز المركزي للمناقصات العامة، فضلا عن تناقض المذكرة التي أعدها ديوان الخدمة المدنية بشأن ما يُعرف بمقترحات تحسين المعيشة مع رؤية وزارة المالية بشأن ضبط المصروفات أو تخفيف الضغوط على أنظمة التأمينات.
ورغم أن الكويت لديها ما يكفيها من أزمات منذ سنوات في الانفلات المالي والتضخم الإداري والإخفاق التنموي، فإن الأحداث في الفترة الأخيرة، والتي يمكن رصدها خلال الأسابيع، تشير إلى أنها تتخذ مساراً أوضح في محدودية قدرة الدولة على التفاعل مع الأحداث الطارئة أو التطورات الاستثنائية.
طريق التنمية
ولعل توقيع العراق مع مجموعة من الدول (الإمارات - قطر - تركيا) اتفاقية طريق التنمية لربط الأسواق الآسيوية بالأوروبية، عن طريق ميناء الفاو العراقي، فتح العديد من التساؤلات عن أثر هذا التطور على ميناء مبارك الكبير الكويتي، والأسباب التي أدت إلى تأخر أعمال الميناء لنحو 20 عاماً، وتحديد المسؤوليات بهذا الشأن ومدى فاعلية السياسة الخارجية الكويتية في تحقيق المصالح الاقتصادية للبلاد، وصولا إلى الإجابة عن السؤال الأهم وهو: ما هي الخطط الحكومية البديلة أو الدفاعية للتعامل مع الوضع المستجد بعد توقيع الاتفاقية العراقية؟
وعلى الرغم من التفاعل الكبير لمسألة توقيع العراق اتفاقية طريق التنمية برلمانياً وإعلامياً وعلى صعيد منصات التواصل والمنتديات الاجتماعية، فإنه لم يصدر تصريح حكومي واحد لا من جهة فنية ولا سياسية ولا دبلوماسية بشأن تطورات أوضاع ميناء مبارك الكبير، والآثار المترتبة على أهم مشروع استراتيجي في البلاد، أي تطوير المنطقة الشمالية، والمعروف بمدينة الحرير، مما يعطي انطباعات داخلية وحتى خارجية بأن مصالح البلاد الاقتصادية والتجارية ليست من أولويات الإدارة التنفيذية، وهو انطباع سيئ جداً، يشجّع على المطالبات الشعبوية داخلياً والأطماع في الحقوق السيادية خارجياً.
توقّف المناقصات
ويسلط توقف أعمال الجهاز المركزي للمناقصات العامة، نتيجة عدم تشكيل مجلس إدارته منذ بداية العام الحالي، الضوء على عدد غير قليل من الجهات ذات العلاقة بالشأن الاقتصادي، حيث تعاني من تكليف القياديين فيها دون تسكينهم، بعضها منذ سنتين أو ثلاث، مثل هيئة أسواق المال ومؤسسة التأمينات الاجتماعية وهيئة الشراكة بين القطاعين العام والخاص وهيئة الصناعة وجهاز المراقبين الماليين وجهاز حماية المنافسة ووحدة التحريات المالية والإدارة المركزية للإحصاء، إلى جانب عدد لافت من قياديي وزارتي المالية والتجارة والصناعة... وقرارات «التكليف» في أفضل الأحوال تحد من القدرة على اتخاذ القرار أو المبادرة، فضلاً عن أن انتهاء تشكيل مجلس إدارة المناقصات يمنع، حسب القانون المعدل عام 2015، من اتخاذ أي قرار بترسية أي مناقصة، وهو ما أوقف اجتماعات مجلس إدارته منذ بداية العام.
ومهما كان الموقف من ضرورة تطوير نظام المناقصات وآليات شراء الجهات الحكومية، حتى مع الحديث عن مشروع قانون حكومي مرتقب بهذا الشأن، فإن الوضع الحالي بلا مجلس إدارة لجهاز المناقصات لا يعد إصلاحاً ولا هيكلة، إنما يمثّل جموداً تدفع ثمنه احتياجات الوزارات الخدمية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بتباطؤ توريد الأدوية أو انتهاء عقود النظافة أو تأخر إصلاح الشوارع، وهكذا، وهو أمر يكاد يكون متناغماً مع محدودية هامش اتخاذ قرار استثماري في «التأمينات»، أو التشكيك الذي يحاول المتلاعبون به الطعن في قرارات هيئة الأسواق، أو تباطؤ العمل على إعادة هيكلة هيئة الشراكة أو جهاز المراقبين الماليين أو غيرها من القرارات التي يصعب اتخاذها من «مكلف» يخضع لقيود إمكانية التسكين من عدمه.
إصلاح معاكس
أما المذكرة التي أصدرتها الأمانة العامة لمجلس الوزراء بشأن ما يُعرف بـ «إصلاح نظام الأجور وتحسين المعيشة»، بناء على تصورات ديوان الخدمة المدنية، فلم يأتِ هذا «الإصلاح» فقط مخالفاً لمنطق احتياجات الاقتصاد ومتطلبات مواجهة التضخم وضبط انحراف سوق العمل، إنما أيضاً جاء مخالفاً للخطاب الاقتصادي الحكومي الذي تتبناه وزارة المالية، إذ جاء مكلفاً لخزينة الدولة بـ 700 مليون دينار إضافي، إلى جانب عدم تقديمه أي تصور لضمان تحقيق أهدافه بخفض الإنفاق بعد 10 سنوات من التطبيق، من خلال إلغاء بعض العلاوات، متغافلاً عن أي تصوّر لإصلاح سوق العمل الذي يوجه الشباب الكويتيين نحو القطاع الخاص، ومتجاوزاً عن المشروع الحكومي المفترض المسمى بالبديل الاستراتيجي، بل أيضاً مردداً فرضية عامة غير واضحة المعالم، وهي منع التلاعب في أسعار السلع الاستهلاكية والغذائية، وهو في الحقيقة هدف فيه الكثير من العمومية وصعوبة، والأجدر أن يرتبط بسياسات أوضح لمواجهة التضخم كالحد من الاحتكار أو تشجيع الإنتاج المحلي.
بل إن مذكرة ديوان الخدمة المدنية طالبت بإحالة جميع موظفي الدولة، الذين مضى على تعيينهم 30 عاماً، مشمولين بشرط السن، إلى التقاعد، وهو توجُّه يناقض مطالبة وزارة المالية ومؤسسة التأمينات الاجتماعية برفع سنّ التقاعد في البلاد، لضمان استدامة صناديق التقاعد لفترات زمنية أطول.
تحديات طارئة
ربما يكون هناك العديد من الأمثلة التي يمكن سردها للتدليل على تجذُّر أزمة الجهاز التنفيذي في البلاد، إلا أن الحاجة الملحة ليس تصيد الأخطاء إنما المبادرة إلى اتخاذ إجراءات تعالج قضايا أساسية غير معقّدة هي جزء أصيل من مهام الإدارة الحكومية كحفظ حقوق الكويت السيادية، وضمان عمل الجهاز الإداري للدولة مع العمل على هيكلته وإصلاحه، فضلاً عن منع اتخاذ سياسات حكومية مناقضة للسياسات الحكومية المعلنة... فهذه بديهات من المؤسف التذكير بأهمية تلافيها، خصوصاً مع تنامي تحديات طارئة على الصعيد الخدمي، كالأزمة المرتقبة على صعيد الطاقة الكهربائية، أو المستجدات الخاصة بالأمن الغذائي، أو حتى على القدرة في مواجهة أي طارئ متعلق بالمالية العامة!