علمانية أم دينية؟!
تسكن الولايات المتحدة الأميركية فكرتان متناقضتان لم تتصالحا حتى الوقت الراهن، العلمانية والدين، تاريخياً حمل المذهب الديني البروتستانتي في جعبته بذور العلمانية السلبية، حيث لا تعترف الدولة بالشؤون الدينية ولا تتدخل بها، ويعد الدين شأناً خاصاً لا ينبغي أن يكون له أي تأثير في شؤون الدولة.
لكن البروتستانتية بشقها «المحافظ» تؤمن بالسلطة المطلقة لله، وما يتبع ذلك من إيمان بالتوراة وتفسيرها الحرفي الذي انبثقت منه الأفكار الصهيونية- غير اليهودية- حول وجوب عودة اليهود إلى الأرض المقدسة الموعودة لهم بالتوراة إلى فلسطين.
على الرغم من الجهود المبذولة من الطرف المقابل «العقلانيين العلمانيين» للحفاظ على الصورة التاريخية لنشأة العلمانية مع نشأة أميركا 1776م فإن وجود (170) مليون بروتستانتي- المعتدلون منهم والمتطرفون- أدّى في الواقع إلى هيمنة وتطبيع الحياة الدينية في المجتمع المدني هناك، ويعكس ذلك وجود أكثر من 1600 محطة إذاعية و250 قناة تلفزيونية تابعة لليمين المسيحي الذي يؤكد دوماً أن الدين «الإلهي» يسهم إيجاباً في الحياة العامة، ويطالب بحماية الدولة للدين من التدخل الحكومي بدلاً من الوقوف ضده، وأن عدم اعتراف الدولة بالدين أو دعمها له ليس أمراً محايداً إنما هو اصطفاف غير محايد مع الثقافة العلمانية، مما جعل الرئيس الأميركي «دبليو بوش» المتدين الصهيوني عام 2005 يدعو الحكومة الفدرالية لتخصيص 1.2 مليار دولار للجماعات الدينية، كما أعلن تأييده لتدريس منهج التصميم الذكي في المدارس الحكومية، وهي نسخة منقحة من نظرية بدء الخلق الدينية.
يتضمن قسم الولاء للجمهورية الأميركية وعلمها الوطني، الذي يقرأ يومياً في المدارس الحكومية ما يلي: «أتعهد بولائي لعلم الولايات المتحدة الأميركية وللجمهورية التي يرمز إليها أمة واحدة في (رعاية الله) غير قابلة للتقسيم...»، مع ملاحظة اعتراض العلمانيين على عبارة «في رعاية الله» باعتبارها تتناقض مع الفكرة العلمانية الحازمة إزاء الأديان عموماً.
كما أيدت المحكمة الدستورية العليا في إحدى القضايا المعروضة عليها دستورية عرض الوصايا العشر من الكتاب المقدس في مبنى البرلمان بولاية تكساس، وهذا ما يعترض عليه الليبراليون لعدم الحيادية في الدين بحسب نظريتهم، يضاف إلى ذلك أنه في عام 2005م صوّت مجلس النواب بالأغلبية 401 مؤيد ضد 22 معارضاً على قرار يؤكد أهمية الرموز والتقاليد الخاصة بعيد الميلاد المجيد التي يتجاهلها أو يرفضها الليبراليون.
خطابات الرؤساء الأميركيين لا تخلو من الإشارات الضمنية للرموز الدينية والمقولات التلمودية، إذ يقسمون على الكتاب المقدس عند تولي مناصبهم وعند نهاية القسم يرددون: «اللهم فاشهد».
ويحدد المؤرخ والسياسي «ألكسيس دو توكفيل» الأميركيين بأنهم زاوجوا بين الرب والبلاد، بحيث يضفون شرعيتهم الوطنية على معتقداتهم الدينية ويضفون قدسية دينية على وطنيتهم، وبهذا يمزجون ما يمكن أن تكون ولاءات متصارعة بالولاء لبلاد متدينة.
وأخيراً يؤكد المؤرخ «هدسن» بقوله: لا يوجد شك في الطرح القائل بأن الولايات المتحدة الأميركية أمة بروتستانتية.