ظاهرة الطاعة لأولي الأمرهي ظاهرة إنسانية، لا انفصام لها، عن الأديان السماوية الثلاثة، واختيار الحكام في اليهودية، يعتبر اختياراًٍ ربانياً، والتفويض الإلهي للملوك، نشأ في كنف الكنيسة الكاثوليكية في عصور الظلام الأوروبية، وقد قامت هذه الظاهرة وترعرعت في الدولة في الإسلام في عصور الضباب الإسلامية على سند من الآية القرآنية الكريمة في قوله سبحانه «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ».
وهي ظاهرة، كأي ظاهرة طبيعية أو اجتماعية، لا يمكن في بحثها أو تحليلها، أو دراسة أسبابها أو دواعيها أو تداعياتها، عن واقع الأمة الإسلامية الآن، وما لحق بها من تخلف عن التقدم الإنساني في كل فروعه الإنسانية، بل اللا إنسانية، (مثل التقدم التكنولوجي في أدوات الحرب والتدمير، والذي تمارس به الآلة العسكرية الغربية الإسرائيلية، حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني)، والأمة الإسلامية تعيش، صمت القبور، عجزا وهلعا.
وهي ظاهرة تصاحبني، آناء الليل وأطراف النهار، فتقصي النوم عن جفوني، وأنا أتابع في صحوي، الإنسانية داخل دائرة الابتذال الضاربة حولها، والمخنوق بها، في هذا العالم الساخر بالقيم والأضداد، فرؤساء دول الغرب الاستعمارية التي فرض علينا النظام الدولي السمع والطاعة لهم، يتنادون بالإنسانية وقد ابتذلوا هذه الكلمة الساحرة في وجوب دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، عن طريق البر والبحر والجو، ويقيمون ميناء بحريا لهذا الغرض وهم لا يقيمون وزنا لأكثر من مدلول كلمة الإنسانية اللفظي، في الوقت الذي يمدون فيه إسرائيل، بالسلاح والمال لإراقة دماء من بقي حيا، من الجوع والعطش والمرض في غزة، وهم مع الحفاظ على أرواح المدنيين في رفح، في حربها الموعودة، وفكرة هذه الحرب أصلا وأساسا هي القضاء على المدنيين، الذين نزحوا إليها من غزة، والإبادة الجماعية للفلسطنيين، لتذهب ريحهم، وتذهب قضيتهم، في غياهب نسيان المجتمع الدولي.
عودة الوعيولكن الله يرسل عليهم جندا من الأبابيل، شباب الجامعات الأميركية، والغربية– في مظاهرات واعتصامات صاخبة- عدة المستقبل لأمم الأفيال، مع الشعب الفلسطيني، ومع حريته، رافضا استمرار هذه الحرب القذرة، ليساندوا أبابيل حماس، الذين انطلقوا في السابع من أكتوبر، بطوفان الوعي من تحت الأرض ليوقظوا العالم كله على القضية الفلسطينية، وقد انتزعوا روح المبادرة من الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، بسلاح الإيمان بالله وبقضيتهم، بأسلحة خفيفة أمام ترسانة إسرائيل العسكرية الكبيرة، وقد كشفوا للعالم كله، وجه إسرائيل القبيح في الحرب على غزة، وزيف ادعاءاتهم بشعب الله المختار، وهم يدمرون الحياة في غزة.
مقدمة طالت، بقدر أقل كثيرا من استحقاقها، قبل أن أدخل في موضوع هذا المقال، السمع والطاعة لأولي الأمر، ففظائع هذه الحرب كالعلقوم في حلقي، تخنق أنفاسي، وكسواد الحبر الذي أكتب به هذه السطور في:
تفسير الآية الكريمة
يقول المولى عز وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» (النساء: 59). وقد ظل المسلمون يتعاطون ما قاله الأولون وتابعوهم وتابعوا التابعين في الطاعة لأولي الأمر، فعانوا الظلم والاستبداد ما عانوه، من تأخر وتخلف عن سائر البشر على سند من هذه الآية الكريمة.
فأصبح من واجب كل مسلم، وكل مفكر أن يتصدى لظاهرة الطاعة لأولي الأمر للحد منها تعميقا لحرية الرأي وحق التعبير عنه، وليحكم الشعب نفسه بنفسه التزاما بأمر المولى عز وجل (وأمرهم شورى بينهم)، وأن الإمعان في قراءة النصوص القرآنية وإحسان فهمها هو فرض عين على كل مسلم، قادر على الاجتهاد، في استجلاء معاني هذه النصوص.
والبين من استعراض نصوص القرآن الكريم، واستنهاض معانيها، سواء على مستوى العقيدة الإسلامية في الطاعة لله ولرسوله، أي العمل بما ورد في القرآن الكريم من أحكام في الشورى، وفي الحرية وفي العدل والمساواة والإخاء، باعتبار أن القرآن وحدة واحدة، لا انفصام بينها، إنها والأحاديث النبوية التي لا تكتمل إلا بها فهي مفسرة ومكملة لها الدلالات الاتية:
الدلالة الأولى: دلالة الطاعة المطلقة لله ورسوله
فمؤدى قوله سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» (النساء:59). ونص خطابها بطاعة الله وطاعة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، أن هذا الخطاب جاء بصيغة من العموم والإطلاق، الى من وجه خطاب هذه الآية إليهم في قوله سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا»، والأصل في العام أن يرد على عمومه، وفي المطلق أن يجري على إطلاقه، فيشمل الخطاب والحكم الوارد فيه المؤمنين، بمن فيهم «أولو الأمر» وقد قرنت هذه العبارة بكلمة (منكم)، دلالة على أن جميع المؤمنين على قدم المساواة، كبيرهم وصغيرهم في هذه الطاعة لله ورسوله، ولتؤكد على التزام المؤمنين بأن يكون اختيارهم لأولي الأمر، (منهم أنفسهم)، أي من الذين آمنوا، وأطاعوا الله ورسوله.
ولا يغني من الحق شيئا، ما يقوله أصحاب التفسير المخالف، الذين يسندون طاعة الناس لأولي الأمر، من هذه الآية الكريمة، لأن الأمر يكون مرهونا بطاعة الناس لله ورسوله، لأن تحقق هؤلاء من التزام أولي الأمر بهذين الأمرين، الطاعة لله والطاعة لرسوله سيكون بما يراه أولو الأمر، فقولهم سيكون هو القول الفصل ومسك الختام، خصوصا أن الأمر بطاعة الله ورسوله قد ورد في أكثر من آيه أخرى من آيات القرآن الكريم، ومنها قوله سبحانه: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ». (آل عمران: 32)، «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا». (الأحزاب، 36).
وقد وردت هذه الآيات الأخرى طاعة لله ولرسوله دون إضافة عبارة «وأولي الأمر منكم»، بما يقطع بأن هذه العبارة قد وردت قبيل التخصيص بعد التعميم «يا أيها المؤمنون»، ليؤكد المولى عز وجل على أن هذا الأمر الإلهي بطاعة الله وطاعة رسوله، لا يعفى منه «أولو الأمر»، بل هو واجب مضاعف الأثقال على الحاكم، مثلما خص العلماء بخشيته في قول سبحانه: «إنما يخشى الله من عباده العلماء»، (فاطر:28)، فهي من قبيل البلاغة القرآنية، ولا تعني بحال من الأحوال، أن العلماء هم وحدهم الذين يخشون الله، والقول بغير ذلك لغو ينزه عنه الفهم السليم لآيات القرآن الكريم.
وغني عن البيان، فأي هيبة وأي مكانة في نفوس وقلوب المؤمنين يمكن أن تكون لولي الأمر إذا لم ينقد لطاعة الله ورسوله، التي هي من واجبه أن يفرضها على سائر المؤمنين، بالخوف والحب معا، إذا لم يأخذ نفسه بما يريد أن يأخذ به الآخرين؟
والحاكم، وإن فرض إرادته بالخوف، أو بشيء من الخوف، إلى حين، فلن يفرض إرادته إلى الأبد إلا إذا وفر للناس الحب والاحترام، وقد قال عز وجل: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ» (الحج: 41)، كما قال سبحانه «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (البقرة: 44)، فالمولى عز وجل، قد وضع الأساس المكين في الحاكم، وهو القدوة والاقتداء، فالماء لا يسيل إلا من عل، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «صنفان من أمتي إذا صلحا صلحا الناس، وإذا فسدا فسد الناس، الأمراء والعلماء».
وثواب الحاكم، في طاعة الله وفي طاعة رسوله، يضاعفها الله للحاكم عن ثواب الفرد في هذه الطاعة، ويضاعف الله سبحانه سيئات الحاكم عن سيئات الفرد، في حال خروجهما عن هذه الطاعة لأن الحاكم مسؤول عن سائر من يحكمهم، أما الفرد فمسؤول عن نفسه.
للرئيس نهرو، قول مشهور، عندما تولى رئاسة الهند بعد اغتيال المهاتما غاندي، فبادره صحافي بسؤال: ما خطتك في حكم البلاد بعد هذا الحدث المروع، فأجابه ببساطة شديدة إن لدى 300 مليون مشكلة، وكان شعب الهند وقتئذ 300 مليون.
وقد قال أحد رؤساء الولايات المتحدة الأميركية، إنك تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، كما تستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس، كل الوقت.
وقد جرت القدوة مثلا في القول الماثور «الناس على دين ملوكهم»، وجرت شعراً في قول الشاعر:
إذا كان رب البيت بالدف ضاربا
فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.