جميعنا يتابع ما يحدث في حرم الجامعات بالولايات المتحدة الأميركية من نشاط طلابي حقيقي، يتمثل في توجيه الطلبة رسالةً إلى جامعاتهم مفادها التخارج من استثماراتها في الشركات الدّاعمة للكيان الصهيوني بأي صورة من الصور بعد جرائم الإبادة الجماعية في غزة.

فالجامعات الأميركية هي كيانات غير ربحية، لكنها تمتلك أذرعاً استثمارية تُشغّل من خلالها أموالها التي آلت إليها في صور هبات من جهات عدّة، فتَتَمَلّكُ أسهماً في شركات متنوعة تدر عليها أرباحاً مع نهاية كل عام، تساعدها على تغطية ميزانيتها المتضمنة دفْع مصاريفها، ورواتب أساتذتها، ورواتب تقاعدية تمنحها بعض الجامعات دون غيرها. فجامعة كاليفورنيا University of California، وهي الجامعة الأم لكل من UC Berkeley، UCLA،

Ad

وUC San Diego تدير استثمارات بنحو 170 مليار دولار موزعة بين أصول عقارية وحصص كبيرة في شركات مدرجة، ويُدير كلٌّ من جامعات ستانفورد وهارفارد محافظ بأصول استثمارية متنوعة تقدّر قيمتها بين 40 و50 مليار دولار لكل منها.

بدأت الحكاية من حرم جامعة كولومبيا في ولاية نيويورك، إذ اعتَصَم الطلاب فنصبوا خياماً صغيرة أمام الجامعة رافعين أعلامَ فلسطين عليها، ومطالبين بضرورة سَحْب الشركة الاستثمارية المملوكة للجامعة، التي تدير أصولها البالغة نحو 14 مليار دولار كافة استثماراتها في الشركات المملوكة للكيان الصهيوني، الداعمة للإبادة الجماعية ضد سكان غزة، وفي غيرها من الشركات التي تمتلك الجامعة أسهما فيها، والمدرجة في البورصات الأميركية وغيرها من البورصات حول العالم. غضبت إدارة الجامعة من هذه المطالبات، وأكدت أن ما يفعله الطلاب يخالف لوائح الجامعة المتعلّقة بعدم جواز نصب الخيام على أرض الحرم الجامعي، فلجأ الطلبة إلى ثغرة تمكّنهم من تلافي ذلك، إذ وضعوا الخيام فوق كراسي لتلافي ارتكاب هذه المخالفات. ومع إصرار الجامعة على معالجة الوضع، ألغتْ مديرتها المحاضرات الدراسية كافة وحوّلتْها إلى محاضرات عن بُعد حتى نهاية العام الدراسي.

لكنّ الأمور لم تزدد إلا سوءاً، إذ اتصلت المديرةُ بشرطة نيويورك، وطلبت إليهم دخولَ الحرم الجامعي لفضّ الاعتصام واعتقال المخالفين، وهذا ما حدث، إذ اعتقلت الشرطة ما يربو على 100 طالب، وطبّقت الجامعة إجراءات تأديبية ضد بعض طلبتها. وانتقل هذا السعار إلى جامعات أخرى، وجرت اعتقالات في جامعات عدّة. ووصف رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو هذه الاعتصامات بأنها مروّعة لأنها تدفع إلى المزيد من مشاعر الكراهية ضد الكيان، وأنها معادية للسامية، وأنها يجب أن تتوقف.

في المقابل، اعتبرت جماعة الطلبة المعتصمة تصريحات نتنياهو تدخّلاً من مسؤول في دولة أجنبية ضد نشاطات سلمية تقام في دولة غَيْرِ دولتِه.

فما جدوى مثل هذه الاعتصامات؟ وما نتائجها؟

في حقيقة الأمر، يجد المتعمق في تاريخ النضال الطلابي بالجامعات الأميركية تجارب إيجابية قد تنطبق نتائجها على اعتصامات 2024 الحالية. ففي ثمانينيّات القرن الماضي، شهدت الولايات المتحدة أكبر عملية سَحْبٍ لاستثمارات تمتلكها جامعة، إذ قامت جامعة كاليفورنيا بيركلي بالتخارج من شركات كانت تَدعم وتُقيم علاقات تجارية مع حكومة جنوب إفريقيا إبّان فترة الفصل العنصري، بلغت كلفتها خسارة تلك الشركات 3.1 مليارات دولار من بيركلي، ونجحت اعتصامات طلاب ستانفورد أيضاً في الضغط على الجامعة بالتهديد بسحب استثماراتها المليونية من شركة Motorola للاتصالات إذا لم تُوقِف الشركة بَيْعَ منتجاتها لأجهزة الشرطة والجيش في جنوب إفريقيا، وانتهت الحركة بنجاح بعد اجتماع مجلس إدارة Motorola واتخاذه قراراً بوقف بيع منتجاتها حتى لا تخسر استثمارات ستانفورد.

ولم يقتصر النضال الطلابي على المطالبة بسحب استثمارات الجامعات من الشركات الداعمة للكيانات المرتكبة لجرائم حرب أو إبادة جماعية فحسب، إذ تعداه إلى سحب الاستثمارات في شركات تصنيع التبغ، الوقود الأحفوري، وشركات إدارة السجون الخاصة.

بالمثل، امتد هذا النضال ليشمل رفض الجامعات المنح المقدمة من تلك الشركات، منعاً للسيطرة على القرارات التي قد تتخذها الجامعات مستقبلاً بشأن الاستثمار، أو تأثير ذلك في أمانة بعض الباحثين العلمية حينَ تضعُهم في وضع تعارُض مصالح إذا ما تعارضت نتائج أبحاثهم الأكاديمية مع مصالح الشركات المانحة.

في المقابل، يدّعي البعض أن دعاوى سَحْبِ الاستثمارات هذه ليست ذات جدوى، إذ إن تأثيرَها ضئيل جداً في نزول أسعار أسهم الشركات المتخارج منها، فهو أثر مؤقّت، وأن من الأجدر تَبنّيَ علمانية الاستثمار بفصله عن السياسة. لكنّ الحركات الطلابية لا تكترث لتذبذب أسعار أسهم هذه الشركات بقدر اهتمامها بتطهير أموال الجامعات من دعم كيانات تُسْهم إسهاماً مباشراً في ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية. على أن العديد من الدراسات الأكاديمية الجادة أَثبَت أن لقرارات سحب الاستثمارات في العقود السابقة دوراً مباشراً في نزول أسهم هذه الشركات، وأن أثره ليس مؤقتاً، وأنه كان واضحاً عند تخارج العديد من الجامعات من استثمارات الوقود الأحفوري من حيث الانعكاسُ المباشر على قيمة أسهمها.

أخيراً، تسلط عملية سحب الاستثمارات الضوء على مَنْ يدعم ارتكابَ مثل هذه الجرائم ضد شعب أعزل، لكونها ترسل رسالةً واضحة بالتخارج، وتنبّه العامة على أولئك المشاركين في هذه الجرائم. ثُمَّ إنّ أثرَها يتعدى نشاطات المساهمين التصحيحية في الشركات المساهمة العامة Shareholders Activism، إذ يتجاوز نشاط بعض المساهمين الجزئي في الشركات التي يمتلك فيها هؤلاء المساهمون حصص أقلية لجامعات تملك حصصاً أكبر، وفي شركات أكثر، وبمبالغ استثمارية أعلى. فعملية سحب الاستثمارات بحد ذاتها تمثّل انتصاراً إذا تحققت، ليس فقط لجماعة الطلاب المناضلة، بل لكل صاحب ضمير حيّ لا يرضى استملاك أسهمٍ في شركات يدها ملوّثة بدماء الأبرياء.

* أستاذ القانون التجاري وأسواق المال

كلية الحقوق - جامعة الكويت