لفتني قول للدكتور طلال أبوغزالة مفاده أننا «نعيش في العالم اليوم عصر اندحار ديموقراطية الأنظمة السياسية أمام ديموقراطية الإنترنت»، وقد صدق الرجل لأن الفروقات المعاصرة التي تميّز فرداً عن فرد ومجتمعاً عن آخر تكمن في حسن استخدام السحابة الرقمية وتمتع الجميع بحق «الوصول الى الإنترنت» الذي أصبح حقاً من بين حقوق الإنسان المعترف بها أممياً، إذ لا شرعية لنظام يقيّد حقوق البشر بالانتقال طوعياً من الكوكب الدائري الى الفضاء الرقمي اللا محدود.
أبناؤنا في هذا العالم أصبحوا «الفضائيين الجدد»، إذ يمضون طفولتهم في أروقة الفضاء الرقمي، فيكتسبون المعارف والقيم من مخرجاته، ويتعلمون «عن بعد بفضل» تطبيقاته، وفي لحظات فراغهم الكثيرة يواعدون أترابهم للعب من خلف الشاشة الساحرة... يتخالطون، يتعارفون، يتسايرون، ينهكون، يتخاصمون وربما يتزاوجون كمخلوقات غير آدمية في هذا الأديم الذي بدا لنا افتراضيا وأثبت في زمن «كورونا» أنه أكثر من ضرورة، وأوضح من حقيقة، وأوسع من أي محيط جغرافي وأكثر ديموقراطية من كل الدول، وأونس من كل المجتمعات التي نعرفها.
من سنن الكون أن الأشياء تتآكل ذاتياً وتنفجر إذا ما اتسعت أكثر من حجمها الطبيعي، وها هو النظام الآحادي الذي فرضه «العم سام» يصارع جبروت التنين الأصفر، ومن سيرفع لواء النصر هو من سينجح بالسيطرة على «الفضائيين الجدد».
البقاء لم يعد للأقوى بل للأذكى، والسيطرة ستكون لمن يستطيع الاستحواذ على أسرار الخريطة الجينية لبني البشر فيمتلك مفاتيح التعامل- عن بعد- مع خصائصنا الفردية ورغباتنا وأمراضنا ونقاط ضعفنا وأسباب قوتنا، أما الهيمنة فهي لمن يمتلك الثقل الوازن في التعاملات السحابية بما يشمل استبدال العملات العادية بالعملات الرقمية.
من سيحكم العالم الجديد هو من سيبرع ويسرع في التحكم بالأزرار، مروراً بكل تفاصيل الاختراقات الإلكترونية وأمن المعلومات، وربح الرهان في مسألة التعليم عن بعد، والتجارة الرقمية، والتعامل من خلال الشاشة!
***
من مظاهر صراع السيطرة على «الفضائيين الجدد»، ما يحصل في السنوات الأخيرة من معارك معلنة، تستخدم فيها كل الوسائل القانونية والإعلامية والتجسسية، بين الدول الكبرى بهدف الهيمنة على منصات التواصل الاجتماعي والتحكم في نفوذها وانتشارها في العالم.
وانطلاقاً من أن هذه المنصات أضحت أدة قوية للتأثير على الرأي العام ونشر المعلومات والأخبار، فقد أصبحت سلاحاً استراتيجياً يضاهي في قوته وتأثيره القنبلة النووية التي حسمت الحرب العالمية الثانية لصالح الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها وسمحت للغرب بالسيطرة على مقدرات العالم.
يتجلى الصراع على منصات التواصل الاجتماعي في عدد من الأوجه، يأتي في مقدمتها سعي الدول الى جمع أكبر قدر من البيانات عن مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، ومن ثم التحكم بنشر المعلومات والوسائط الدعائية التي تحقق الأهداف العقائدية، والسياسية، والاقتصادية، والتجارية وبالطبع الاجتماعية.
من ناحية أخرى، يأخذ هذا الصراع طابعاً اقتصادياً من خلال معارك تستهدف الشركات الكبرى العاملة في هذا المجال، وهذا ما حدث مثلاً في الاستشراس الأميركي تجاه شركتي «هواوي» ومنصة «تيك توك» الصينيتين، وذلك تارة من خلال ترويج القناعة بأنهما من أدوات التجسس التي تغزو العالم، وأطواراً أخرى من خلال فرض حظر عليهما وإخضاع المتعامل معهما لعقوبات معينة.
***
العالم يتغير وعلى الأرجح أنه تغير، ونحن نعيش فيه تناقضات قاتلة بين متطلبات نظرية من جهة وثوابت فطرية وواقعية من جهة أخرى، فالاكتفاء الذاتي الذي أمسى هدفاً ما بعد أزمة كورونا مثلاً يناقض مفاهيم العولمة والانفتاح الاقتصادي، كما أن السيادة أصبحت هشّة أمام سياسات الباب المفتوح، وحدود الدول أضحت وهماً أمام مقتضيات العالم الافتراضي... أما الديموقراطية المزعومة فقد سقطت إنسانيتها الكاذبة أمام هول ما يحصل في العالم من حروب وانتهاكات وما تعممه وسائل التواصل الاجتماعي من قيم جديدة وتنقله من مشاهد واقعية عن عالمنا المتوحش.
المجتمعات تعيد صياغة قناعاتها، والأفراد يعيدون النظر في أولوياتهم، وليس أدلّ على ذلك أنه لم يعد منطقياً- في زمن الحجر الكوروني مثلاً- التفكير بكل ما اعتبره البشر تقليدياً ومعتاداً كالعمل والاجتماعات والممارسات الديموقراطية والانتخابات وربما النزاعات والحروب!
الزمن هو زمن الأسئلة الكبيرة والخطيرة، فهل «العولمة الرقمية» ستبقي المجتمعات على ما هي عليه؟ وهل الدول- حتى المتقدمة منها- التي أسست لعقود طويلة منظوماتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على قيم معينة ونظريات محددة ستحتفظ بخصوصياتها وتمايزها أمام التقارب الكبير في أنماط التفكير وطرق العيش بين شعوب الأرض في عصر الرقمنة؟ وهل بقي معنى أو جدوى لأي حديث عن المدارس والأفكار الرأسمالية والاشتراكية والنظريات الاقتصادية والتجارية؟
ورغم ما قد يظهر من صعوبات أو يتبدّى من إحباطات من واقعنا وهذه الأسئلة، تبقى الحقيقة الثابتة أن تطور التاريخ البشري والحضاري أثبت أن الإنسان أقوى من كل الأزمات وأصلب من أي تحولات وانهيارات، ومن سيرفع لواء الفوز في النهاية هو من يحسن الاستعداد في أزمنة التغيير الهوجاء لما بعد مرور العاصفة، والمجال في هذا السياق مفتوح أمام كل شعوب الأرض للعمل الجدّي والاستشراف الدقيق لمستقبل العالم الذي يعيش فيه ويحكمه «الفضائيون الجدد».
* كاتب ومستشار قانوني.