حظيت المملكة العربية السعودية وعمارتها القديمة، وكل وجوه تراثها وتاريخها باهتمام كبير من قبل الرحّلة والمُستشرقين العرب والأجانب قديماً، وقد استمر هذا الاهتمام من خلال عشرات الباحثين الذين وجدوا في المملكة وما تملكه من تفرّد وثراء في جغرافيتها ومعالمها الأثرية، ومبانيها ذات العمارة التراثية المتميّزة، وسكانها وما صنعوه من تاريخ مجيد على مر الزمان، وجدوا في كل ذلك مادة تستحق الدراسة والبحث، فأنتجوا مئات البحوث والدراسات والكتب التي تنتشر في المكتبات العربية والأجنبية.
ومن بين المناطق التي حظيت باهتمام الرحّالة والمؤرخين، والمستشرقين والباحثين الغربيين قديما وحديثاً، قرية سدوس الواقعة على بُعد 70 كم من العاصمة السعودية الرياض، وجاء ذكرها في الكثير من المراجع التاريخية.
بحث تاريخي
وقد كان من بين الباحثين الأجانب الذين اهتموا بتلك القرية وعمارتها العالم والمهندس المعماري الألماني كريستوف هانکه، والذي زار القرية وتوقف بالدراسة والبحث عند تاريخها وعمارتها وتخطيطها، والذي حظي باستقبال وحفاوة أهل القرية، وعلى رأسهم الشيخ عبدالرحمن بن إبراهيم ابن مشاري بن معمر رحمه الله 1343 - 1415هـ/ 1925 - 199م «أمير سدوس»، الذي استقبل الباحث، وأكرم وفادته، ووفر له المأوى المناسب في منزله الخاص، وأمده بكل ما يحتاجه في إكمال بحثه، كما أمدة بالمعلومات التاريخية سواء ما يتعلق بالسكان أم التقاليد الاجتماعية السائدة، وأثرها في تصميم تلك المباني ووفر له مقابلة الباحثين وأهل القرية المهتمين بتاريخها إيماناً منه بواجب خدمة الضيف والكرامة، ودعم طالبي العلم والمؤرخين والدارسين، وكل من يسهم في إثراء الجوانب المعرفية بصفة عامة، وكذلك عنه العميق لهذه القرية التي نشأ فيها منذ نعومة أظفاره، ولم يفارقها ولم تفارقه حتى وفاته، وذلك كما يروي لنا الأستاذ فيصل بن عبدالرحمن بن إبراهيم بن معمر، المشرف العام على مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، والباحث والكاتب المهتم بتراث المملكة وتاريخ وعمارة قريته ومسقط رأسه سدوس.
وفي المقدمة التي كتبها للترجمة العربية للدراسة الموسعة التي أعدها الألماني كريستوف هانکه، والتي أشرف ابن معمر على ترجمتها للعربية، وطرحها في كتاب حمل عنوان «سدوس.. نموذج للقرية النجدية بالمملكة العربية السعودية»، روي ابن معمر الكثير من التفاصيل التي أحاطت بدراسة هانكة، وذكريات إقامته في قرية سدوس، مروراً بمناقشة تلك الدراسة في ألمانيا حيث نال بها هانكة درجة الدكتوراة، وحتى ترجمة تلك الدراسة وطباعتها وإتاحتها للباحثين والمهتمين السعوديين والعرب.
دراسة المدن والحواضر
أشار فيصل بن عبدالرحمن بن إبراهيم بن معمر، في تقديمه للكتاب الذي اشتمل على دراسة هانكة، إلى أن دراسة المدن والحواضر دراسة شاملة من خلال تتبع أسسها المعمارية وبنيتها التخطيطية، وربط ذلك بالأعراف الاجتماعية، والتقاليد السائدة لدى سكان الله المدن والحواضر تعد من الدراسات التي تعطي الصورة المتكاملة لمعرفة السمات المعمارية والاجتماعية التي تثري الجانب التاريخي والحضاري الملك الأماكن، وتعد القارئ بالتفسير الواضح للتركيبة الاجتماعية مدى أثرها في تصميم المباني والمنشأت ما يجعل هذا تاريخاً حياً لتلك المدن والحواضر.
وأكد أن هذه السمات غالباً لا تتوافر إلا من خلال الدراسات الميدانية، واتصال المؤلف بأهالي تلك المدن والحواضر حتى يشلى له الوصف الدقيق بالمشاهدة والمعايشة، وتفسير آلية التصميم بالحديث مع السكان واعطاء أسباب تخطيط منازلهم ومرافقهم الخدمية المتنوعة، وأن من بين تلك المؤلفات كتاب «سدوس.. نموذج للقرية النجدية بالمملكة العربية السعودية»، الذي هو محل حديثنا في تلك السطور.
نموذج للقرية النجدية
وأصل هذا الكتاب دراسة علمية نال بها العالم والمهندس المعماري كريستوف هانکه، درجة الدكتوراة من إحدى الجامعات الألمانية، وكان عنوان تلك الدراسة «سدوس نموذج للقرية النجدية.. أسس التخطيط والهيكل المعماري».
وقد قام بترجمة الكتاب الذي حملت صفحاته فصول تلك الدراسة العلمية أكاديميان في كلية السياحة والآثار في جامعة الملك سعود هما: سعيد بن فايز السعيد، ومحمد على الديري.
ويقول المترجمان اللذان سبق لهما وأن التقيا بكريستوف هانکه في موطنه بألمانيا، وكان في صحبته خلال اللقاء فيصل بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن معمر، وأنهما حين تسلما الرسالة وقاما بالإطلاع عليها بشكل أولي، وجداها عملاً علمياً ضخماً، وقد ستغرقت ترجمته شهوراً.
دراسة عادات الإنسان
وفي مقدمة المؤلف التي تصدّرت الكتاب، يقول العالم والمهندس الألماني كريستوف هانکه، إن الباعث الرئيس لي واهتمامي بموضوع العمارة التقليدية جاء من خلال اهتماماتي الوظيفية ومشاركتي في الإشراف على مشروعات عمرانية وسكنية في منطقة الرياض وما حولها، وتركز اهتمامي ليس فقط على رصد الظواهر المعمارية والمباني.
ويُضيف هانكه إلى أنه أولى الاهتمام أيضاً بدراسة عادات الإنسان الذي يعيش بين جدران تلك المباني وتقاليده.
ويوضح بنه نظراً للرغبة في البحث عن روابط إنسانية وحضارية للظواهر المعمارية في المنطقة، وقع اختياري على قرية سدوس وذلك بسبب الحالة الجيدة للمباني الطينية هناك، إضافة إلى صداقتي مع أمير سدوس عبدالرحمن بن إبراهيم بن مشاري بن معمر (1343) - 1415هـ) رحمه الله، مما منح فرصة جيدة للبدء في دراسة موقع سدوس في عام 1982م. فضلاً عن ذلك أسفرت علاقتي ببعض أهالي سدوس عن تبلور أحاديث جانبية تناولت عمارة الموقع، وشجعتني على طرح كثير من الأسئلة ذات العلاقة بموضوع الدراسة.
ولفت إلى أنه خلال المؤتمر الذي عقد في الرياض عام 1987 بعنوان معرض المباني الطينية تمكن من عرض نموذج للبلدة القديمة في سدوس أعده من مادة الطوب المحروق.
ونوّه إلى أن هذا النموذج يعرض اليوم في متحف التراث الشعبي في برلين.
موقع مثالي
وبحسب الكتاب، فإن قرية سدوس في نجد تعد موقعاً مثالياً ونموذجياً للعمارة التقليدية في وسط الجزيرة العربية.
وقد برهنت المخلفات الأثرية على وجود استيطان بشري قديم في إقليم نجد، ويرجع تاريخ أقدم رسم صخري عثر عليه في المنطقة، وتحديداً في كهف رنه، إلى عام 2400 ق.م، مما يؤكد أن المنطقة كانت مأهولة بالسكان في ذلك التاريخ.
وقسمت الدراسة إلى جزئين «مجلدان» وملحق يشتمل على المخططات، وتناول الجزء الأول إضافة إلى المقدمة سبعة فصول، ويشتمل الفصل الثاني حتى الرابع على ما يأتي: التطور التاريخي والعمراني لسدوس وظائف البناء وأنواع المباني المتعددة. وأسس البناء وأساليبه.
وأما الفصل الخامس فيعنى بمناقشة نتائج البحث وتقييمها بينما خصص الفصل السادس للملاحق المتضمنة التوثيق والتصوير والمخططات، وألحقت به معلومات توثيقية للمباني عن المساحات المستغلة في أجزاء الموقع ومعلومات عن الطرق والمباني.
أما الفصل السابع فيشتمل على مبحثين خصص الأول منهما لشرح أسلوب كتابة المفردات العربية بالأحرف اللاتينية، وتعريف عانيها باللغة العربية، وخصص الثاني للنصوص التي استشهد فيها بالقرآن والسنة.
وبحسب الكتاب، فقد أشار كثير من المؤرخين إلى رجال سندوس على أنهم شاركوا في الحروب الأولى للفتح الإسلامي، ومن أشهرهم ثابت السنوسي.
كما ذكرت المصادر شخصاً من كتاب التاريخ من أهل سدوس اسمه أبو بكر بن حفص بن يزيد السدوسي الذي كتب تاريخ العلماء، وتوفي في عام 293 هـ/ 906 م.
ذكر في الأشعار
وقد ذكرت سدوس في جملة من أشعار العرب وأحاديثهم، حيث يشير ياقوت في معجمه إلى الشاعر محبوب بن علي الأحمي الذي مجد قرية بني سدوس وبارك العيش فيها، ذاكراً أنها لا تقارن بما رأه في بغداد.
وعن سدوس يذكر الهمداني قرية تقع على طريق اليمامة تعرف باسم القرية، حيث يقول ما نصه وفوق ذلك قرية يقال لها: القرية بها بنو سدوس بنو شیبان بن ذهل بن ثعلبة، كما يذكر العربي في معرض حديثه عن الاستيطان على الطرق المؤدية إلى مكة ما نصه، ثم القرية، قرية بني سدوس ابن شيبان بن ذهل.
أما البكري فيقول أن القرية في تصغير قرية، ويسكنها بنو سدوس من قبيلة ذهل في اليمامة.
وهكذا ومع مرور الوقت اختفى الاسم القديم للموقع، وأصبح ينسب فيما بعد إلى سكانه بنو سدوس، وبقي هذا الاسم حتى اليوم.