هم يقاومون، نعم يقاومون والإبادة مستمرة، يقاومون والتطهير العرقي مستمر أيضا، يبقون هم يقاومون بمختلف ما تيسر من قوة، يقاومون والموت يصطادهم فرداً فرداً حتى آخر طفل، حينها يبقى طفل آخر قريب أو جار يقاوم، يهدمون بيوتهم فوق رؤوسهم ويصرخون تحت الأنقاض حتى يخفت صوتهم، لكنه لا يموت، فما إن يستطيع المسعفون الوصول إليهم حتى يجدوا حياة تخرج من تحت الرماد، والمذهل أن تلك الحياة هي طفل صغير أو طفلة بقي تحت الحجر أياما وأياما، حتى سحبت جثته من تحت الركام، وهو ينادي: «عمو عمو... أمي هناك روحوا لها أول»، أليس في ذلك فعل مقاومة؟

هم لا يقاومون بالسلاح والقذائف والبيانات والفيديوهات وكل أدوات الحرب من عسكرية وإعلامية، بل هم يقاومون بأجمعهم، أي كلهم نساء وأطفالا وشيوخا وشبابا ورجالا وكل مخلوقات الله! تلاحقهم الصواريخ فيدنو الموت ليقتنص أحبتهم وهم كثر، فلن تستطيع أن تسأل غزاويا أو غزاوية إلا ويكون الرد أنهم فقدوا 40 أو 60 أو كل أفراد عائلتهم، يرمون بهذه المعلومة لك أو لها، وهم سائرون يبحثون عن سقف حتى لو كان خيمة ليستظلوا به، أليس في ذلك مقاومة؟

Ad

وسط الجوع والعطش والحصار حتى على الهواء وماء البحر وثمراته يغنّي الأطفال في ساحات المدارس التي تحولت إلى ملاجئ أو أمام خيمهم أو بين موجة وأخرى على شواطئ غزة، قبل أن تطاردهم القذائف الشيطانية، يغنّون للوطن والأرض مرة، وللأهل الذين رحلوا سريعا مرات ومرات، ثم يهرولون بحثا عن حفنة طعام لما تبقى من عائلتهم القريبة أو تلك التي أصبحت عائلتهم بعد أن رحل الجميع!!! أليس في ذلك فعل مقاومة؟ يستمرون في التدريس أو البحث أو مناقشة رسائل الماجستير والدكتوره في الخيم والزنانة فوق رؤوسهم، وصراخ الأطفال يأتي من قريب، ورائحة الموت تحيط بهم أقرب من المقابر!! أليس في ذلك فعل مقاومة؟

يعرفون أن عليهم أن يقولوا للعالم إننا لا نزال هنا بعد سبعة أشهر أو أكثر حتى في شمال غزة ورفح وفي كل بقعة من غزة والضفة وكل فلسطين، يرددون نحن لا نزال هنا باقون فوق أرضنا، يلملمون جراحهم، ويمسحون الدمع الغزير كما غزارة دمهم، ويقولون لطلاب العالم في جامعاته (شكراً) لأنكم وقفتم معنا وطالبتم بوقف المجزرة بل الإبادة، أليس في ذلك مقاومة؟

يمسح أحدهم دمعة طفل بعد أن سأله «لماذا تبكي عمو؟»، ويرد الطفل وهو خجل من دمعته «ماتت أمي وبيي وكل إخوتي»، فيمسح دمعه ويلاطفه، ويقول له ما يعني إنهم كلهم أو ما تبقى منهم أمهات وآباء له، ثم يمسك بيده ويمضون معا، أو يراه يتلوى من الجوع فيطعمه ما هو طعامه وطعام كل من معه في الخيم، ويمضون من شارع لشارع ومن شمال لجنوب أو شرق لغرب، وهي أي آلة الحقد والإبادة تطارد الأرواح البريئة، فيقومون بمسح دموعهم ويمضون سائرين، أليس كل ذلك فعل مقاومة؟

يضعف أحدهم فهم بشر بلحم ودم، فيقول «ألا يكفي كل هذا الموت والدمار؟»، ويتساءل آخر: لماذا فعلوا بنا ذلك أو حتى يحمله اليأس والجوع والحزن إلى لوم نفسه أو أهله على ما يجري؟ وكل ذلك ردة فعل إنسانية بحتة، فنحن لسنا ملائكة ولا هم كذلك، ونحن لسنا بشراً فوق البشر أو أقوى منهم، وهم كذلك أيضا، أليس في اعترافهم بضعفهم شيء من المقاومة أيضاً؟

يقول أحدهم كلما تابعت جولاتهم هنا وهناك واجتماعاتهم المغلقة و... و.... وكثير مما يتسرب منها إلى الصحف الإسرائيلية، ينقبض قلبي وينتابني وجع في الصدر، فالقادم مخيف جداً، يردد هو أو هي ذلك وهم في بقاع بعيدة عن مرمى أسلحتهم، وهم ونحن كلنا نجلس في غرفنا المكيفة نحتسي الشاي والماء المثلج، وموائد طعامنا تسد عين الشمس، وهناك يرسل لهم أطفال غزة تحية وحب وكثير من الأمل، وهم يرددون نشيداً وحباً لأرضهم، أليس كل ذلك فعل مقاومة؟

من السهل أن تسير حياتنا كما هي مع بعض «التنكيد»، كلما قفزت صور غزة وفلسطين أمامنا، بل من الأسهل أن نتصور أن بمتابعتنا لتلك المشاهد الموجعة ما يكفي كتعبير عن تضامننا معهم، مع أهلنا في غزة ومن السهل أن يقول أحدهم: لقد عملت «ريتويت» لـ«بوست» حول غزة، وهذا آخر ما أقدر عليه لمناصرتهم، ويردد آخر إنني لم أحتس قهوتي المفضلة من ستاربكس منذ السابع من أكتوبر، أليس في ذلك ما يكفي من التضامن؟

كل هذا تضامن وكل ما يقومون به هم مقاومة وبعض الأمل أو كله هو أكثر فعل مقاومة.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.