ربما يكون أحد أهم الملفات الاقتصادية أمام الحكومة التي شُكّلت الأسبوع الجاري يتعلق باستحقاق إقرار ميزانية السنة المالية 2024 - 2025 التي مرت خلال أقل من 6 أشهر على 3 رؤساء حكومات، لكل منها دور في الإعداد أو الاعتماد، أو أخيراً إقرارها بقانون نافذ.
وفي الحقيقة، فإن ميزانية 2024 - 2025 هي نسخة مكررة من ميزانيات سنوات سابقة، لا تختلف إلا بتعظيم مخاطر الاستدامة، لكونها تركز 79.4 بالمئة من مصروفاتها على بندَي المرتبات والدعوم، وتعتمد على إيرادات نفطية لا تقل عن 87 بالمئة من إجمالي الإيرادات، وتمثّل ثاني أعلى إنفاق بتاريخ البلاد بقيمة 24.5 مليار دينار - بعد ميزانية العام الماضي المتضمنة بنوداً استثنائية غير ضرورية، مثل تكاليف بيع الإجازات - بالتوازي مع بلوغ سعر التعادل مستوى 90.7 دولاراً للبرميل، مع فرضية عجز متوقع في نهاية السنة المالية عند 5.8 مليارات دينار، بناء على معدل 70 دولاراً للبرميل.
ارتفاع المخاطر
وقد ارتفعت مخاطر الميزانية العامة للدولة منذ جائحة كورونا، عندما تخلت الدولة عن اقتطاع نسبة الـ 10 بالمئة المقررة من إيرادات النفط لمصلحة صندوق احتياطي الأجيال، وهو إجراء دفاعي ضروري متوقف منذ 4 سنوات، ولم يُستقطع سوى 1 بالمئة فقط منه خلال السنة المالية الماضية، ليختفي مجددا في الميزانية الحالية، وهذا يعني من جانب رغبة أكثر في صرف المزيد من الأموال من دون ادّخار أو استقطاع مستقبلي، ومن ناحية أخرى خفض درجة التحوط تجاه تقلبات الأسواق وآثارها على استثمارات الصندوق السيادي.
ولعلنا أمام ميزانية متصاعدة من حيث النمو والمصروفات تتطلب ضبط الانفاق وتقليص الهدر أكثر حتى مما تتطلبه من زيادة الايرادات التي مهما ارتفعت فستظل تحت طائلة المزيد من الإنفاق غير الحصيف، فبينما تُعد أسعار النفط مرتفعة نسبيا مدعومة بعوامل استثنائية كآثار خفض مجموعة أوبك بلس للإنتاج النفطي وتداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية، الى جانب حرب غزة، إلا أن هذه الأسعار لم يعد بوسعها، كما كان خلال سنوات سابقة، أن تسجل فوائض مالية، إذ إن ارتفاع الإنفاق العام ساهم في صعوبة أن تؤدي أسعار النفط دورا سهلا في تحقيق الفوائض المليارية، كما كان الوضع يحدث بسلاسة عند مطلع الألفية، وصولا الى عام 2015.
مراحل الإصلاح
وربما يتساءل البعض: كيف يمكن إصلاح أوضاع ميزانية عامة متضخمة بالمصروفات الجارية من مرتبات ودعوم بقيمة 19.5 مليار دينار، أي نحو 80 بالمئة من إجمالي المصروفات؟
وفي الحقيقة، فإن مهمة إصلاح الميزانية على صعوبتها تُعد من أولى أولويات الإصلاح الاقتصادي والمالي، لكونها مرتبطة بالاقتصاد والمشاريع والخدمات، وصولا الى المواطنين والمقيمين ومختلف أوجه الحياة في البلاد، مما يجعل مهمة المعالجة شاقة لارتباطها بحساسيات اجتماعية وعوائق اقتصادية، لكنها غير مستحيلة، بل ضرورية، ويمكن تقسيمها وفقا للإجراءات والسياسات العاجلة والآجلة على آماد قصيرة ومتوسطة وطويلة.
سقف وتنقية
ولعل الخطوة الأولى المفترضة على المدى القصير تتضمن إعلان سقف ميزانية محدد لـ 3 سنوات قادمة لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال، وقد تكون هذه الميزانية واحدة مجمعة تضم مصروفات 3 سنوات مالية، بحيث يتم تنقية المصروفات غير الضرورية والغامضة التي تحفل بها ميزانية الدولة سنويا كمصروفات إيجارات المباني (88 مليون دينار)، أو المؤتمرات الداخلية والخارجية والمهمات الرسمية (93 مليونا)، وغرامات الأحكام القضائية على الدولة (33 مليونا)، والمخصصات كجوائز لغير الموظفين (90 مليونا)، وإعادة ضبط المصروفات الغامضة أو المبهمة في الميزانية، فيما يعرف بالمصروفات الخاصة (360 مليونا)، أو الخدمات العمومية (260 مليونا)، وغيرها من أوجه الهدر التي يمكن أن توفر للدولة - من دون جهد كبير - نحو مليار دينار، من دون آثار مباشرة على حياة الناس أو جودة الخدمة.
جهد بالخدمات
أما الخطوة الثانية فتتعلق بالمصروفات التي يتطلب توفيرها جهدا أكثر في مجال الخدمات العامة تحديدا، فضلا عن حاجتها إلى وقت على المدى المتوسط، وتتعلق بتكاليف خدمات تعاظمت خلال السنوات الماضية، نتيجة لقصور جودة الخدمة الحكومية، مثل تكاليف تأمين المتقاعدين (عافية)، وهي تكاليف مدفوعة ارتفعت قيمتها الى 170 مليون دينار سنويا في بلد يقدّم خدمات الرعاية الصحية المجانية لجميع المواطنين، الى جانب فاتورة العلاج بالخارج التي وإن تراجعت مقارنة بسنوات من استخدامها السياسي من 800 مليون دينار مثلاً عام 2019 الى 350 مليونا عام 2022، فإنه أيضا يمكن تقليصها برفع مرونة النظام الصحي والتشغيل الأمثل للمنشآت الصحية الجديدة، التي يفترض من وجودها أن تخفّض معدلات العلاج بالخارج الى أدنى مستوياتها، فضلا عن مراجعة الإنفاق على البعثات الدراسية الداخلية للتعليم العالي التي توازي 70 بالمئة من إجمالي البعثات تحديدا، وكلها تناهز كلفتها 600 مليون دينار سنويا لتحديد أوجه الهدر فيه وتقييم عوائده العلمية وآثاره على سوق العمل.
إصلاح مستدام
أما المرحلة الثالثة، وهي على المدى الطويل، فترتبط بتحقيق نتائج على مستوى الإصلاح الاقتصادي، لا سيما سوق العمل من جهة تحفيز القطاع الخاص لخلق الفرص الوظيفية بهدف خفض تكاليف بند المرتبات وما في حكمها البالغ 14.83 مليار دينار، أي 60.5 بالمئة من الإنفاق العام، والعمل على حوكمة الدعوم بين الأفراد والشركات، وأيضا الأفراد أنفسهم لإعادة توجيه منظومة الدعوم التي تكلف الميزانية 4.66 مليارات، أي 19 بالمئة من الإنفاق العام، إضافة إلى العمل على إعادة هيكلة الإنفاق الرأسمالي عن نسبته الحالية 2.29 مليار، أي 9.3 بالمئة، بشرط أن يكون داعماً لاحتياجات الاقتصاد، وأهمها إصلاح سوق العمل وتمويل المالية العامة بالعوائد غير النفطية، فضلا عن جلب التكنولوجيا وجودة الخدمة... مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية تقليص القطاعات الحكومية الضخمة وقيادييها العديدين، مع دمج الهيئات المتشابهة التي مثّلت لسنوات حكومة موازية لوزارات الحكومة الأصلية من دون عائد لمعظمها لا على الاقتصاد ولا جودة الخدمة.
ميزة أم عبء؟
لا شك في أن أمام مجلس الوزراء، وتحديدا الفريق الاقتصادي الحكومي، مسؤوليات كبيرة على صُعد الاقتصاد والتنمية والمالية العامة، لعل أكثرها جدية إصلاح اختلالات ميزانية الدولة قبل إقرارها، ومن خلالها سيتبيّن إن كان غياب مجلس الأمة سيمثّل ميزة لعمل مجلس الوزراء أم عبئاً عليه، حيث تكون المسؤولية كاملة على السلطة التنفيذية والجهاز التنفيذي للدولة بكل ما فيه من تضخّم إداري وبيروقراطية وقصور وغياب للقياديين.