يقول المولى عز وجل في محكم تنزيله «... وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون» صدق الله العظيم، (سورة الأنبياء - الآية 30).
ومن دون مقدمات، الماء يعني الحياه الوفيرة، وقلته تعني الزيادة في الشقاء واستحالة العيش، ولا يختلف على ذلك اثنان من أولي الألباب.
أمننا الغذائي يعني أننا نستطيع الأكل مما نزرع والشرب مما نقطّر من مياه بحرنا المقابل لمفاعل بوشهر الإيراني، عبر حرق وقودنا المستخرج من أرضنا (وهناك تقنيات أخرى) لو قررت الظروف، لا قدّر الله، أن تعاندنا لأي سبب كان وتحت أي ظرف.
فالمؤسسون استشعروا خطورة هذه المسألة عندما قام الشيخ مبارك الصباح بالتفكير بإنشاء أول محطة متواضعة الإمكانات لتقطير مياه البحر نُفذت عام 1919، بعد وفاته، يرحمه الله، إلا انها فشلت تجارياً لأمور تتعلق بجودة الماء وتكلفته آنذاك، مقارنة بمياه شط العرب وعبادان، حتى جدد الفكرة الشيخ جابر الأحمد يرحمه الله، عام 1947، بعد اكتشاف النفط، هذا المخدر الذي أدمنّاه وأسأنا استغلاله، لنبني أول محطة تجارية ناجحة لتحلية المياه في العالم عام 1951 في ميناء الأحمدي.
نحن أصحاب الريادة والإبداع والتميز، أصحاب السبق والأفكار الجريئة والمغامرات المتميزة قبل النفط وبعده، ونحن أصحاب الجيب العميق الذي وصل خيره الى جميع أصقاع الأرض بفضل الله ومنّته، فشق خلالها القنوات المائية، وقامت بسببه المشاريع التنموية الكبرى على بعد آلاف الكيلومترات من هذه الأرض الطيبة المباركة، وفي الوقت نفسه الذي يئن المزارع الكويتي، ولا أدّعي أني منهم، لكنني قريب جدا، ويندب حظه، من دون أن يلتفت اليه أحد مع الأسف منذ أكثر من نصف قرن، وعلى الرغم من أن ما يقوم به المزارعون لا يقل أهمية عمّا يقوم به جنودنا البواسل من حماية للحدود، ومنتسبي وزارة الداخلية العيون الساهرة في ضبط وحفظ الأمن، فإن العراقيل المصطنعة والبيروقراطية المستوردة والغباء الإداري المتوارث بالأقدمية في المؤسسات المعنية بالزراعة حالت دون إعطائه الاهتمام المطلوب وتلبية احتياجاته، بدءاً بالهيئة العامة للزراعة والثروة السمكية التي نسيت دورها في استصلاح الأراضي قبل تسليمها للمزارعين، وتوفير ما يحتاجه المزارع من آلات ومعدات زراعية وأسمدة وغيرها، ليصبح عملها إداريا في مبنى ضخم بارد لا تنقطع عنه الكهرباء ولا يعاني نقص الماء، بعيد جغرافيا عن المزارعين، وبعيد كل البعد عن واقعهم المتعب وآمالهم وطموحاتهم المشروعة التي حطمها تسويف الحكومات، واقتات عليها الوصوليون من السياسيين ومن المستفيدين من فشل الزراعة في الكويت، البلد الصحراوي الجاف الذي يبيع مزارعوه أحياناً صندوق الخيار المدعوم المزروع في البيوت المحمية المبرّدة بالماء والمراوح بخسارة، وبعشرين وخمسينا فلسا فقط! لوافد يقوم (بقدرة قادر) بتصريفه بأضعاف مضاعفة، مرورا بوزارة الأشغال المعنية بإيصال مياه الري الناتجة عن معالجة مياه الصرف الصحي بالمراحل الأربع في محطات المعالجة الأربع كالصليبية، وهي أكبر محطة لمعالجة المياه في العالم، عبر أنابيب لا تصل إلى كل المزارع، وإن وصلت فإن المياه لا تصل بشكل مستمر لغالبيتها، ليس لقلة المياه، لكن لفساد وصل الى استبدال أنابيب الصلب بأنابيب PVC تنفجر ولا تتحمل غزارة الإنتاج، ليصب هذا النهر الهادر في البر أو البحر عائدا بعد تقطير كلّف الدولة أموالا طائلة وانبعاثات كربونية هباء منثورا، بدلاً من أن تروي هذه المياه مزارعنا التي أنهكها الملح الناتج عن استخدام مياه الآبار المالحة لري الأعلاف وبعض الأشجار التي تتحمل الملوحة، والتي أخذت ملوحتها بالارتفاع نتيجة حقن راجع لعمليات أجهزة ومحطات التحلية المصغرة في الآبار الميتة لبعض المزارع، وهي مخالفة صريحة لم يكن لبعض المزارعين بُد منها بسبب نقص المياه، مما أدى إلى ارتفاع نسبة الأملاح في الآبار الحية عاماً بعد آخر!
ووفق مصادر، فإن المياه التي تصل إلى المزارع لا تتعدى 140 ألف متر مكعب من المياه يوميا من أصل 600 ألف متر مكعب كطاقة انتاج يومي، وهو ما يعني أن 460 ألف متر مكعب من الماء الصالح للري نهر مهدر بكل المقاييس!
وبدلا من أن نشكر نعم الله سبحانه التي لا تحصى علينا بحفظ نعمته، بأن نوصل المياه لجميع مزارع الكويت، وأن نستبدل الماء الصليبي المالح بالمعالج من دون الأملاح المضرة بأساسات البيوت.
يذكر أن 80 بالمئة من مياه الكيان الصهيوني معاد تدويرها رغم وجود الأنهار وبحيرة طبريا تحت سلطة الاحتلال، فأمننا الغذائي لا مجال فيه للآراء، ولا أقول انظروا إلى قطر التي حققت اكتفاءها الذاتي في لمح البصر، لكن أقول إننا نمتلك أكثر مما نحتاج، لكن ينقصنا القرار السريع بالتفوق.
عندما يصل الماء تصل الحياة إلى المزارع التي أصبحت حدائق حيوان وملاهي للأطفال، نجح بعضها وأصبح مزاراً ومتنفساً للعائلات التي تنتقل عبر جسر الشيخ جابر، رحمه الله، في حافلات سياحية قاطعة البحر باتجاه مزارع العبدلي مثلاً، حيث الأسماك الحية الطازجة وجميع أنواع المنتجات الزراعية التي تقطفها أيادي الأطفال في هذه الحقول الممتدة المزينة بالأشجار والأخشاب الحاملة لأنوار الإضاءة، ومنتجات الطيور والدواجن والألبان والأجبان والبيض والعسل في سوق المزارعين، رغم الظروف المناخية الصعبة، ورغم انقطاع التيار الكهربائي المستمر والمدمر، في جمرة القيظ مثلاً، قد تصل درجة حرارة البيوت المحمية إلى 75 درجة سيليزية في غضون 3 ساعات فقط، وهي كفيلة بحرق المزروعات ونفوق بعض الأسماك والدواجن والماشية.
نجح المزارع الكويتي حتى الآن في الصمود، فتخيّل لو وصل هذا النهر الهادر إلى كل مكان في الكويت، كيف ستكون الكويت؟