يروى عن سبب إضافة مقبض للأكواب الزجاجية أن الأكواب والفناجين الخشبية كانت بالأصل بلا مقابض واحتفظت بالشكل نفسه حتى بعد صناعتها من زجاج، إلى أن أتى من التفت إلى ضرورة إضافة مقبض لها، ليس لدواع جمالية فحسب بل للتخفيف من حرارة الكوب الذي يحتوي على شراب ساخن، وبخاصة أن الزجاج موصل للحرارة أكثر من الخشب.

وقد سجّل البعض خطأ هذه الإضافة لأن مبتدعها لم يفهم الحكمة من عدم وضع تلك المقابض من الأصل، إذ إن إغفالها لم يكن عيباً ولا سهواً، بل كان عن سابق قصد التزاماً بالقناعة «إن ما لا تستطيع لمسه لا ينبغي لك شربه»، فالمقبض العازل للإحساس من شأنه أن يخدع الشارب الذي قد لا يستطيع تحديد درجة سخونة شرابه إلا بعد فوات الأوان وشعوره بألم الاحتراق في لسانه وفمه وربما جوفه!

Ad

وهكذا حال الأفراد والمجتمعات في كثير من المواقف والمحطات التي قد تقع في فخ التجميل أو التبرير لتصرفات قد ترتكبها أو قرارات قد تتخذها مما يجر عليها عواقب أثقل على كاهلها من مقدرة الاحتمال، مما ينطبق عليها القول إنها تشرب ما لم تستطع تلمس سخونته وتحديد مخاطره.

فقد تبدو الأمور لبعض الأشخاص سهلة المنال وبديعة المآل، بينما تخفي في طياتها صعوبات وتحديات لا يدركها المرء إلا بعد «خراب البصرة» كما يقال، وهذا ما شهدناه واضحاً في السنوات الأخيرة عندما تسابق بعض أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة على الاستثمار في قطاع المطاعم، دون إجراء دراسة كافية للسوق والمخاطر، مساقين خلف انبهارهم بنجاح تجربة هنا أو مقلدين لتجربة أخرى هناك!

كذلك الحال فيما يخص مقاربة بعض الظواهر الاجتماعية التي قد تبدو للوهلة الأولى أنها بسيطة وغير مؤثرة، لا بل ربما تسوّق أنها مفيدة، في حين يكشف التعمق فيها أنها تتطلب جهوداً كبيرة وتعاوناً حقيقياً وصبراً ملحوظاً ووعياً مضاعفاً من جميع المعنيين بها والمتصدّين لها لتجاوز ما قد تجره على المجتمع من ويلات.

فهكذا من خلال الانجرار خلف متعة اكتشاف فضاءات العالم الافتراضي تتراكم العواقب الصحية وتشتد الآلام المرتبطة بالاستخدام الخطأ والمسرف لهواتفنا النقّالة، وهكذا أيضاً- من باب التقليد وشراء الراحة بالمال- تخلّينا عن أبرز واجبات الأبوة والأمومة، وتركنا تربية أطفالنا لمن نستأجرهم لهذا الغرض، وهكذا- من باب إثبات الذات- قد يتسبب سلوك قائد مركبة متهوّر ومستهتر في إزهاق أرواح من لا ناقة لهم ولا جمل في استعراضاته «الشوارعية».

فمهما جمّلنا أو استسهلنا أسبابها، فإن آثار مثل هذه الآفات الاجتماعية حارقة وقد لا نتلمّس حدة لسعها إلا بعد التعثر في محاولة تخطيها، بما يتطلبه ذلك من كل الأفراد والمجتمعات التحلي بالمسؤولية تجاه الأنفس والآخرين، وإدراك تأثير أفعالنا- مهما جمّلناها أو بررناها- على المجتمع ككل.

الفساد لا ينتشر إلا بتعدد الفاسدين المقتنعين بأن الرشوة هي هدية، ولا تلتصق سمة بشعب معين من غير تكرار التصرف نفسه أو انتشار الظاهرة نفسها لدى جزء وازن منه، ولم تعمّ آفة تطابق أشكال النساء وبعض الرجال الا بعد رواج التدخل الجراحي المغيّر لما خلق الله ونسب زوراً للتجميل!

***

نستنتج مما سبق أن على المرء الذي وهبه الله نعمة العقل وحمّله أمانة الفكر أن يتريث في قراراته وأن يتأنى في تصرفاته، وألا تنطلي عليه جمالية الظاهر على حساب غموض المضمون، وألا تلهيه القشور عمّا قد تكتنزه السرائر من أحقاد دفينة وخطط خبيثة.

فمن خلال التفكير النقدي، يمكن للفرد تقييم المعلومات والمواقف والتصرفات التي يتلقاها وتحليلها بشكل موضوعي، سواء أتعلق ذلك بالسياسة، أم بالاقتصاد، أم حتى بالعروض التجارية المغرية أم بالمجاملات الاجتماعية المخادعة أو المبالغ فيها.

المثال الأوضح على أهمية التفكير النقدي يكمن في تجاوز تحديات البيئة الرقمية المعاصرة من خلال تعزيز مقدراتنا على التمييز بين المعلومات الصحيحة والمفبركة، وتطوير مهاراتنا لكشف الأخبار المضللة والدعاية الكاذبة على الإنترنت وفي وسائل الإعلام الحديثة ومنصات التواصل الاجتماعي، والتعامل مع محاولات الخداع الشخصي أو التجاري بيقظة لفصل الخبيث عن الطيب.

***

قد تنطبق المقولة التي احتلت عنوان المقال على كل ميادين حياتنا اليومية، والحري من خلالها أن نركز على أهمية المقاربة الرشيدة لكل ما يتعلق بالتنمية المستدامة والتعليم، وبخاصة أن كلا المجالين هما موضع انهيارات دراماتيكية وموضوع مقاربات عشوائية، رغم جمالية الشعارات وجاذبية الرفاهية.

فما زالت أجيالنا وما زالت الجهات المعنية بالمجالين المذكورين تتعامل مع المؤقت على أنه دائم، ومع المتطلبات التنموية بنَفَس شعبوي، فأضحى نهم الأجيال الحالية على استهلاك الثروات والموارد غير مبشّر ببقاء احتياط كاف منها للأجيال اللاحقة، كما أن التعامل بسطحية مع معضلة تدهور التعليم وعدم صلاحية المناهج لا يعزّز الأمل بمستقبل أفضل لشبابنا ومجتمعاتنا ودولنا.

* كاتب ومستشار قانوني.