أن تموت هنا خير من أن تعيش هناك؟ *
يصعب أن تكون هناك إجابة صحيحة أو حقيقية في كل الأوقات، كما يصعب أن يكون المرء على يقين بأنه هو «الصح» والآخرون جميعا إما أغبياء وإما مضللون من قبل آخرين يعرفونهم على أنهم شياطين الأرض والسماء والبحر، بل هم ملوك الشياطين في الحياة والآخرة!
مع ذلك يردد كثيرون في لحظة ممتدة للإحساس الذي انتابهم ربما قبل سنين قد تمتد لأكثر من عشر أو عشرين أو ربما لسنوات وسنوات هي فترة زمنية تطول وتقصر حسب مقاييس كل فرد، كما العمر، وكما معنى الحياة، تقفز مثل هذه التساؤلات أو ربما تبدو هي على شكل فلسفة سفسطائية بحتة عندما يقرر أحدهم وهو جالس على كرسيه الوثير أو حتى في شقة متواضعة أصبحت منزله بعد أن هجر أو أجبر على الرحيل والسفر السريع، حتى أنه لم يملك من الوقت ما يسمح بلملمة بعض من ذكريات مبعثرة في أركان مسكنه الذي كان بيته وحياته.
يقول لماذا يرحلون في حين عليهم الصمود والبقاء حيث هم في وجه الآخر، والآخر ليس كما يتخيل لنا أو هكذا كان، أي الأنظمة الحاكمة أو السلطات أو حتى المؤسسات المتسلطة كالمؤسسات الدينية على تنوعاتها واختلاف تسمياتها، بل هي كل الآخر الذي يتصور أنه أو أنها يملك القدرة والمعرفة لمعرفة ما هو أفضل لك، نعم لك أنت أينما كنت أو أينما حللت، هم يتصورون أن صمودك أنت فقط سيسقط الظلم بأشكاله وألوانه المتنوعة، فببقائك تشرق الشمس كل يوم دون هاجس البحث عن لقمة عيش تسد الأفواه الجائعة المنتظرة إياك في ذاك الجحر الذي يدعى سكنا.
وتبقى مشرقة وأنت تتسول الحق في العلاج لأحد الأحبة على قلبك أو حتى جارك الذي عرفته منذ أن كنت تلعب الكرة في زقاقكم الضيق أو... أو... وكثيرة هي التأويلات والمواقف التي تعمل جهدها دون كلل لإقناعك أن بقاءك ميتا في قبر بمدينتك التي عصفت بها الحروب، أو ثقافة الاستهلاك وانتشار وباء الفساد والمحسوبية والمنصب حسب اسم العائلة وولائك، بل ولاء كل فرد من عائلتك حتى الطفل الرضيع منهم الذي عليك أن ترضعه منذ ساعاته الأولى حب الحاكم والآمر! يبقون لساعات على وتيرة الحماس نفسها في محاولة لإقناعك، أو ربما إقناع أنفسهم قبلك، أن بقاءكم هنا أفضل من الرحيل، وإلا فهذا يعني إما أنك تسهم في تغيير ديموغرافي أو أنك تنكر حق الوطن عليك في أن تبقى وتبقى وتشقى وتشقى في سبيله.
هنا كانت تلك العبارة التي رددها الزميل عندما قال: هل من الأفضل أن أبقى في المكان الصح حتى الموت جوعاً أو قصفا أو بسبب الاختناق من شدة العتمة في بلدي أو بلدتي أو مدينتي، أم أرحل لأعيش ربما بعيداً، ولكن ليبقى الوطن أو حلم المكان الذي كنت وكنا نسعى لبنائه متقداً بداخلنا لا ينطفئ بصحافتهم وإعلامهم وندواتهم وشعاراتهم، وحتى أغانيهم الوطنية التي تستخدم بكبسة زر لتكون وسيلة حماسية باهتة، ولا تبتعد كثيرا عما قام به الشهير غوبلز كبيرهم الذي علمهم جميعا السحر، حتى تفوقوا عليه كما كل يتفوق التلامذة الفاشلون الخائبون على معلميهم وأساتذتهم بحكم قدرتهم الرهيبة على «الفهلوة»؟!!
يرددون: ماذا تفعل في تلك البلاد رغم أن كل البلاد هي أرض الله كما علمونا، وقالوا عنها إنها واسعة جدا، بل تعلمنا أن نطلب العلم ولو في الصين التي بدت حينها ونحن طالبات بظفائر وكأنها آخر بقعة ضوء في الأفق بل أبعد منها ربما؟ وآخرون يقولون لهم ابقوا حيث أنتم في بلدة لم يبق منها سوى ظل الموتى وعتمة تنيرها ضحكات وحكايات كانت تسكنها، يؤكدون أن الموت هناك أشرف من الرحيل، وهم كانوا أول الراحلين ليس بأجسادهم بل عندما بعدوا كثيراً عن قيم من علمهم من كبار فهموا الحياة دون أن يعلقوا شهادات تحمل أسماء جامعات هارفارد ويال وبوسطن وأوكسفور، وكثير كثير غيرها تحولت هي الأخرى إلى أسماء ماركات شهيرة يحب بعضهم أن يحملها ويعلق لوحاته مصحوبة بصور حفل التخرج الشهير، حيث كان المتحدث الأساسي هو ذاك الرئيس أو الوزير أو مدير المؤسسة المالية أو رئيس بنك يعرف القاصي والداني، كم تسببوا في موت الكثيرين أو تجويعهم أو إفقارهم أو حتى قتلهم البطيء بالبطالة والعوز والذل المغلف بأسماء ملونة.
يعيد السؤال نفسه: أن تموت صامداً في مدينتك المعتمة أفضل لك من العيش في غربة بعيدة حتى ترى النور كما الآخرين، أليست كلها مما يقال إنه حقوق للإنسان، أي إنسان وأينما كان؟
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.