ورثة مانديلا يواجهون أكبر اختبار انتخابي

نشر في 20-05-2024
آخر تحديث 19-05-2024 | 18:44
 بروجيكت سنديكيت احتفلت جنوب إفريقيا مؤخراً بالذكرى الثلاثين لأول انتخابات ديموقراطية فيها والتي جلبت إلى السلطة نيلسون مانديلا الحائز جائزة نوبل للسلام، إذ يحظى مانديلا الذي يُعتبر «الأب المؤسس» لجنوب إفريقيا ما بعد الفصل العنصري والكاهن الأكبر للمصالحة باحترام عالمي باعتباره قديسا علمانيا، لكن اليوم، يواجه مانديلا اتهامات متزايدة بعدم محاسبة الأقلية البيضاء الثرية على 350 عاما من جرائم الاستعمار والفصل العنصري وبدون دفع تعويضات كافية لضحاياهم الذين غالبيتهم الساحقة من السود. عندما يتوجه المواطنون في جنوب إفريقيا إلى صناديق الاقتراع في التاسع والعشرين من مايو، فإن إرث مانديلاــ وورثته السياسيين ــ سيواجه أعظم اختبار له حتى الآن، وفي الانتخابات الأكثر أهمية منذ أصبحت البلاد ديموقراطية، فإن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذي حكم بدون انقطاع منذ أن قاده مانديلا إلى النصر في عام 1994، قد يفقد أخيرا احتكاره للسلطة. على الرغم من التغطية الإعلامية الغربية السلبية لجنوب إفريقيا في مرحلة ما بعد الفصل العنصري، فقد حققت البلاد بعض التقدم الاجتماعي والاقتصادي المثير للإعجاب على مدى العقود الثلاثة الماضية حيث تم بناء نحو 3.4 ملايين وحدة سكنية، وتم توصيل الكهرباء الى 90% من الأسر كما أن 82% من الأسر لديها مياه موصولة بالأنابيب، ويتلقى 18.8 مليون مواطن في جنوب إفريقيا منحاً اجتماعية قيمة. (وبطبيعة الحال ليست كل الأخبار طيبة، فقد ارتفعت معدلات البطالة إلى 32%، في حين لا يزال 18.2 مليون إنسان يعيشون في فقر مدقع). لقد كانت جنوب إفريقيا حتى العام الماضي العضو الإفريقي الوحيد في مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) ومجموعة العشرين كما لا تزال الدولة الإفريقية الوحيدة التي لديها شراكة استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي.
علاوة على ذلك، فرضت جنوب إفريقيا نفسها مؤخراً على الساحة الدولية وذلك من خلال اتهام إسرائيل بانتهاك معاهدة الإبادة الجماعية في قضية أمام محكمة العدل الدولية، وتتوافق هذه الخطوة الجريئة مع قيم حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي يتمتع بتاريخ حافل في دعم حق تقرير المصير وإظهار التضامن مع رفاقه في حركات التحرير.
لقد أربك مانديلا العديد من الغربيين عندما حافظ على علاقات وثيقة مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، والزعيم الكوبي فيدل كاسترو، والزعيم الليبي معمر القذافي، وجميعهم أيدوا بقوة نضال جنوب إفريقيا ضد الفصل العنصري، وباعتبارها عضوًا غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في الأعوام 2007-2008، و2011-2012، و2019-20، دعت جنوب إفريقيا إلى حق تقرير المصير لشعب فلسطين والصحراء الغربية.
ولكن بعد أن أصبح رئيساً، لم تتمكن رؤية مانديلا لتعزيز حقوق الإنسان والديموقراطية من الاستمرار عند اصطدامها بالواقع لأول مرة، ففي عام 1995، عندما شنقت الطغمة العسكرية الحاكمة في نيجيريا بقيادة الجنرال ساني أباتشا كين سارو ويوا، الناشط البيئي، وثمانية من زملائه الناشطين، دعا مانديلا إلى مقاطعة النفط وطرد نيجيريا من الكومنولث علمًا أنه في سعيها لعزل نيجيريا، وجدت جنوب إفريقيا نفسها معزولة، حيث اتهمت الدول الإفريقية حكومة مانديلا بأنها حصان طروادة بالنسبة للغرب كما اتهمتها بتقويض التضامن ضمن القارة. وفي وقت لاحق، عكس نائب مانديلا، ثابو مبيكي، هذا المسار قبل توليه السلطة في عام 1999، لقد كان لدى مبيكي تصور «النهضة الإفريقية» وهو التصور الذي يستلزم إنشاء برامج الرعاية الاجتماعية في الداخل وإقامة علاقة استراتيجية مع الرئيس النيجيري آنذاك أولوسيجون أوباسانجو لبناء المؤسسات التي يقوم عليها الاتحاد الإفريقي، كما أرسل مبيكي قوات حفظ السلام إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية وبوروندي، وشارك في جهود صنع السلام في زيمبابوي وساحل العاج. لقد ظل مبيكي وأوباسانجو يمارسان الضغوط على مجموعة الثماني لحملها على إلغاء الديون الخارجية المستحقة على إفريقيا وتوفير التمويل اللازم للتحول الاجتماعي والاقتصادي في القارة، ولكن دون جدوى، لقد سعى مبيكي كذلك إلى إضفاء الطابع الديموقراطي على مؤسسات الحوكمة العالمية مثل الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وعلاوة على ذلك، دافع عن مصالح الجنوب العالمي من خلال المساعدة في تأسيس منتدى حوار مجموعة الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا في عام 2003. خلال رئاسة جاكوب زوما، الذي تم انتخابه في عام 2009، حصلت جنوب إفريقيا على حق الدخول إلى نادي بريك، لقد تبنى زوما سياسة تجارية تصديرية سعت إلى جعل جنوب إفريقيا «بوابة إفريقيا»، وعلى الرغم من أن شركاتها العملاقة التي يهيمن عليها البيض في قطاعات تتراوح من الاتصالات والتعدين إلى محلات السوبر ماركت وسلاسل الوجبات السريعة قد بدأت بالفعل في الانتشار في طول القارة وعرضها، ولكن تم إفراغ مؤسسات الدولة من مضمونها خلال فترة حكم زوما، واتُهمت إدارته بالكسب غير المشروع على نطاق واسع.
لقد تورط الرئيس الحالي سيريل رامافوسا، الذي تولى منصبه في عام 2018 في مشاحنات لا تنتهي داخل الحزب ويُنظر إليه على نطاق واسع بأنه يتبع نهجا لا يعكس الحماس في التصدي للفساد كما واجهته صعوبات أيضًا في إحياء مؤسسات الدولة المهملة وسيئة الادارة مثل شركة إسكوم، مرفق الكهرباء الذي أدى انهياره إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر. وعلى الرغم من هذه التحديات المحلية، واصلت جنوب إفريقيا السعي لاجتذاب المستثمرين الأجانب وذلك من أجل جعل البلاد سوقاً ناشئة جذابة، لقد حققت سياسة رامافوسا الخارجية بعض النجاحات فبصفته رئيسًا للاتحاد الإفريقي في عام 2020، ضغط من أجل المساواة فيما يتعلق بالحصول على لقاحات كوفيد19، متهمًا العالم الغني بـ«الفصل العنصري في مجال اللقاحات»، وكرئيس لمجموعة البريكس في العام الماضي، أشرف على توسع المجموعة كما تساهم جنوب إفريقيا أيضًا في جهود حفظ السلام في الكونغو وموزمبيق.
إن من الواضح أن رؤساء حزب المؤتمر الوطني الإفريقي المتعاقبين قد أهدروا رأس المال السياسي لحزبهم من خلال الفشل في كبح الفساد المتفشي وتقديم الخدمات العامة، لقد انخفض الدعم لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي إلى مستويات قياسية، مما يشير إلى أنه قد يحصل على أقل من 50% من الأصوات في الانتخابات المقبلة ويضطر إلى تشكيل حكومة ائتلافية. لكن السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا لا تزال تحظى بشعبية واسعة النطاق بين الغالبية السوداء في البلاد وعلى الرغم من أن الأقلية الصاخبة، ومعظمها من البيض، تبدو وكأنها تشعر بالحنين إلى الدفء في علاقة البلاد مع الغرب خلال فترة الحرب الباردة، فإن من المؤكد أن ورثة مانديلا كانوا في بعض الأحيان مرتبكين دبلوماسًيا، حيث بدا وكأنهم يدعمون الغزو الروسي لأوكرانيا، على سبيل المثال، مما أغضب الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، فإن هناك العديد من الأسباب الوجيهة التي تجعل جنوب إفريقيا تحافظ على علاقات جيدة مع حلفائها في مجموعة البريكس وغيرها من دول الجنوب العالمي، فضلا عن علاقات سليمة مع شركائها الغربيين التقليديين. يشمل ذلك دورها القيادي في قارة تتزايد أهميتها الاستراتيجية، ودعمها الثابت لحق تقرير المصير في العالم النامي، وحقيقة أن الصين هي أكبر شريك تجاري ثنائي لها، وسيظل تبني موقف يعكس عدم الانحياز أمراً بالغ الأهمية بصرف النظر عن نتيجة الانتخابات، لأنه يقدم أفضل طريق إلى الرخاء الاقتصادي واستمرار النفوذ في الشؤون العالمية.
*أديكي أديباجو:أستاذ وزميل أبحاث كبير في مركز جامعة بريتوريا للنهوض بالمنح الدراسية في جنوب إفريقيا، عمل في بعثات الأمم المتحدة في جنوب إفريقيا والصحراء الغربية والعراق، وهو مؤلف كتاب «إفريقيا العالمية: لمحات عن الشجاعة والإبداع والقسوة» و«النسر وسبرينغبوك: مقالات عن نيجيريا وجنوب إفريقيا».
back to top