ليس هدف هذا المقال أن يقدم قراءة تحليلية لـ «خطاب العهد»، الذي ألقاه حضرة صاحب السمو أمير البلاد الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح مساء الجمعة العاشر من مايو 2024. ذلك أن الخطاب لا يحتمل إلا قراءة واحدة، هي قراءة «النص» مقرونة باستعادة صوت وصورة سمو الأمير المحمّلين بحزن عميق على ما آلت إليه أمور البلاد، والمحمّلين بعزم أكبر على الإصلاح واستعادة الاستقرار والازدهار والديموقراطية المعافاة، فالخطاب - وما انتهى إليه من قرارات - جاء واضحاً غير موارب، وجاء صريحاً غير ملتحف بمصطلحات الدبلوماسية والمجاملة، خصوصاً في معرض توضيح المناسبة والدوافع والأهداف. وهو – بالتالي - لم يكن إلا صدى أميناً لكل ما كنا جميعاً نعرفه ونلمسه ونعيشه، ولكل ما كنّا جميعاً نتحــــدث عنـــه فـــــي البيوت والديوانيـــــات والمكاتب، وفي الإعـــلام والمنتديـــات والاجتماعات، نبحـــــث - بذهول- عن تفسير لتخلف الكويت عما كانت عليه، وعما يمكن ويجب أن تكون عليه. ونبحث - بقلق - عن سبيل الخروج من هذا الانسداد الطويل في مسارات الحكم والديموقراطية والتنمية، وفي مجالات العدل والهوية الوطنية والأمن الاجتماعي.
إذن، كان ثمة إجماع - أو ما يقاربه - على أن وطننا في خطرٍ يضاعف من تكلفته وتسارعه نهج الهروب من التغيير والرهبة من القرار، وكان ثمة إجماع - أو ما يقاربه - على ضرورة العمل بسرعة بغية تحقيق اختراق شامل وحازم يردع الخطر، وينهى الانسداد، ويوقف الانحدار، ويمنع الانهيار، ويرمم ما ألحقه الفساد من ضعف وضرر في مفاصل الدولة ومؤسساتها، وفي قيم المجتمع وممارساته. وهذا - بالذات - ما قصده حضرة صاحب السمو الأمير حين اختار - بكل شجاعة - السبيل الأجدى والأسرع والأصعب، وأخذه بنفسه وبصدره وعلى عاتقه، مقدّراً لكل ما يحمله هذا الطريق من أعباء وتحديات، وواثقاً من عبوره بنجاح بعون الله وتلاحم الشعب. وبالتالي، لم يبق أمام الكويت بعد «خطاب العهد» إلا خيار واحد هو التأييد الصادق والتعاون الكامل لكي تستعيد ألقها وريادتها وازدهارها، تحت بصيرة أميرها، وبصر دستورها ومجلس أمتها. وأي جدال حول خيار آخر سيؤول بنا – لا سمح الله – إلى ما آلت إليه أوضاع دول عديدة وشعوب عزيزة في المنطقة.
بعد هذا العرض السريع للمشهد السياسي العام الذي أوحى إلى حضرة صاحب السمو الأمير «خطاب العهد» والقرارات التي انتهى إليها، وخريطة الطريق التي رسمها. وبعد التأكيد على دعم وتأييد الخيار الوحيد والسديد الذي تركنا الخطاب أمامه، أتمنى أن أكتب، على هامش الخطاب وبقلم الرصاص، النقاط الرئيسية التالية التي أحسب مخلصاً أنها ستساعد في تشكيل المناخ الوطني العام المتفهم لهذا الخيار، والمؤيد له، والمتعاون في سبيل نجاحه:
أولاً- نعرف جميعاً أن المواطن الكويتي قد اعتاد الحرية والديموقراطية باعتبارهما شرطاً معاشياً وسياسياً، ينسجم مع عقيدته السمحة وسجيته المنفتحة، وبالتالي، لم يكن من السهل على الكويتيين أن يستقبلوا قرارات تعطيل مجلس الأمة وبعض مواد الدستور بهذا الترحيب والاستبشار لولا ثقتهم بضرورة هذه الإجراءات لمنع هدم القيم الدستورية وإهدار المبادئ الديموقراطية. وقد زاد الثقة بضرورة هذه القرارات وغايتها ومرحليتها، ما جاء في «خطاب العهد» نفسه من ثناء صادق على نصوص الدستور، وعلى حصافة ورقي المجلس التأسيسي، ومن تمسك بالديموقراطية، «فكما حرص حكامنا السابقون على تثبيت دعائم الديموقراطية وسلّموا رايتها لنا، سيكون همّنا وواجبنا كذلك، أن نسلم راية الديموقراطية إلى من يأتي من بعدنا خفاقة عالية في سمائنا».
ثانياً- إن السنوات الأربع التي تمثل سقف المرحلة الانتقالية القادمة ستكون – وبكل المعايير - فترة مصيرية لا يمكن اجتيازها بأمان ونجاح إلا إذا حرصت الحكومة كل الحرص على احترام حقوق المواطنين وحرياتهم، وخصوصاً حرية الرأي وحق الاختلاف، في إطار سعة الصدر ورحابة الأفق. كما أن اجتياز هذه المرحلة الانتقالية بأمان ونجاح يقتضى مصارحة الشعب بكل ما يتطلبه الإصلاح من قرارات صعبة، لكي يشعر المواطنون أنهم شركاء حقيقيون في حركة الإصلاح، فيتعاونوا بمسؤولية وحماس على نجاحها.
ومع الإقرار الكامل بأن التغيير هو الشرط الأساس لتحقيق الاستمرار والاستقرار، فإني أعتقد أن إعادة النظر بالدستور يجب أن تتم طبقاً لما تضمنه الدستور نفسه وليس بنأيٍ عنه، ولاسيما من حيث احترام المادة 175 منه، والتي تنص على أن «الأحكام الخاصة بالنظام الأميري للكويت، وبمبادئ الحرية والمساواة المنصوص عنها في هذا الدستور لا يجوز اقتراح تنقيحها ما لم يكن التنقيح خاصاً بلقب الإمارة أو بالمزيد من ضمانات الحرية والمساواة».
إن الهدف الأسمى لدستور أية دولة هو الحفاظ على وحدة الوطن واستقراره، وحماية المواطنين من الاستبداد أياً كان مصدره، وهذا ما أتمنى أن يكون واضحاً حاسماً ومحكماً في دستور الكويت المنقّح.
ثالثاً- إن «إشكالية الحكم والديموقراطية والتنمية» في الكويت، بكل ما ترتب عليها من نتائج سلبية وخطيرة في جميع المجالات دون استثناء، ليست فقط وليدة جموح غالبية أعضاء مجلس الأمة وتغوّلهم على مبدأ فصل السلطات في فصول تشريعية عديدة ومتعاقبة، بل هي، أيضاً، وليدة ضعف غالبية الوزراء في حكومات كثيرة، وعلى مدى زمني غير قصير في الحالتين. وإذا كانت غالبية النواب قد أخفقت – مع الأسف الشديد- في الانتقال من تمثيل الدائرة أو القبيلة أو الأسرة أو الطائفة إلى مقعد تمثيل الوطن والنيابة عن الشعب كله، فإن غالبية الوزراء – بالمقابل – قد أخفقت – ومع الأسف الشديد – في الانتقال من موقع كبير التكنوقراط إلى موقع رجل الدولة. كما أخفقت – في الوقت نفسه – في صد تغوّل النواب على سلطاتها وصلاحياتها، وأمعنت في مجاملة نواب الخدمات كوسطاء لمن لا حق له، وشفعاء لمن خالف القانون.
وإني لأتطلع بأمل إلى أن نصل في السنوات الأربع القادمة إلى نظام انتخابي جديد قادر على تحقيق أفضل تقارب ممكن بين مقتضيات التنمية وصندوق الاقتراع، كما أتطلع إلى نهاية النهج التكنوقراطي في تشكيل الحكومات، والذي أثبت فشله رغم تعدد تجاربه واختلاف أشكاله وتبريراتــــــــــــه، علّنا نحظى بـــوزراء يستنـــدون إلى الحكمـــة بدل الاختصاص، وإلى المعرفة بدل الشهادة الجامعية، ويكرسون جهودهم لخدمة البلاد داخل مجلس الأمة ومجلس الوزراء قبل مكاتب وزاراتهم.
رابعاً - في خضم تداعيات وتطورات إشكالية الحكم والديموقراطية والتنمية في بلادنا، أغفلنا أو غفلنا عما تشهده منطقتنا من حرائق وحروب تنذر بتغييرات بعيدة الأثر، تسعى إليها قوىً تمارس جبروتاً، وقوىً تدعي إرثاً أو تثير ثأراً، وهنا أكاد أجزم حين أزعم أن التحسب للمخاطر الخارجية كان عاملاً مؤثراً في سرعة تحرك صاحب السمو أمير البلاد لوضع حد حاسم وحلٍّ واعد لاحتقان الداخل.
وأخيــــــراً...
إن في مسيرة الدول أحداثاً تشكل منعطفات مفصلية، تكون لها آثار بعيدة المدى في كيانها وتاريخها، وتكون لها انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على اتجاهاتها وتحولاتها، وعند مثل هذه الأحداث يجب أن تعود الدولة إلى ركائزها، فيعتصم الحكم بشعبه، ويعتصم الشعب بوحدته وعقيدته وقيمه، فلا يدفعه شيء من الحماس إلى البحث عن مخارج خلفية، ولا يجرّه شيء من اليأس للنكوص عن مواقفه، فالوعي للتغييرات مسألة وجود ومصير، والوعي بالمتغيرات عملية مركّبة تتطلب معرفة الذات بلا أوهام، ومعرفة الآخرين بلا استهتار أو انبهار.
وإني لأجزم أن «خطاب العهد» الذي ألقاه حضرة صاحب السمو أمير البلاد الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح مساء الجمعة العاشر من مايو 2024، يمثل أحد هذه المنعطفات المفصلية بعيدة الأثر التي ستزداد فاعليتها في تحقيق مصلحة الكويت العليا، كلما ازداد زخم المشاركة الشعبية الواعية في تأييدها والدفع بها لتحقيق أهدافها.