عندما يفاخر أهل الديرة بهويتهم وكويت زمنهم الجميل فهم يتذكرون كويتاً لم يكن لها شبيه في المنطقة، الكويت التي بناها الأولون «من لا شيء»، حتى صارت جزءاً أصيلاً من ممارسات لا تمحى من ذاكرة حياتهم حتى اليوم، وحافظوا عليها خوفاً عليها من عوامل التعرية الاجتماعية والإقصاء السياسي، اليوم يحاول الطارئون على هويتنا والحاشرون أنفسهم في حياتنا أن يلغوا هذه الحقبة الجميلة من الوجود، بعد أن ظفروا ودون وجه حق بالتجنيس السياسي العبثي، وحاولوا أن يمحوا تراثها وآثارها من الذاكرة الكويتية، والحمد لله أنهم لم ينجحوا في مسعاهم الشرير إلا بالقدر الذي نبه أهل الديرة إلى خيوط جريمة ديموغرافية بدايتها كانت بإحلال هوية مزيفة مكان الهوية الحقيقية، واستبدال صورة مشوهة وممزقة كما الأشلاء مكان التمثال الكويتي الشامخ.

في ذلك الزمن الجميل كان كل ما حولنا كويتياً صرفاً له رداؤه المعروف ولهجته المميزة، فالكويتي الحقيقي الدال على أصالة هويته، لم تمزج شخصيته الفريدة بأصباغ جنسيات أخرى حتى إن اقتنعنا أن الكويتيين هم مجموعة هجرات من دول أخرى انصهرت عاداتهم وتقاليدهم ولهجاتهم في بوتقة كويتية فريدة لا مثيل لها، فالشخصية الكويتية متفردة بنكهتها التي تستطيع أن تميزها عن غيرها حتى إن تنوعت ثقافته، فإن كانت خليطاً من نكهات متعددة، فإنها أوجدت شخصية كويتية جديدة لا ثاني لها تبلورت من واقعه المعيش المغلف بحرية القول والفعل والحركة.

Ad

في تلك الحقبة الجميلة كان السياسيون كويتيين حقيقيين يخططون لكويت أجمل، فلا فساد ولا إفساد ولا كسر للقوانين، حتى جاءت فكرة زيادة عدد السكان لوجود فوائض البترودولار، وهو في الأصل تجنيس سياسي، ليعبث القادمون الجدد بإنجازات الأوائل، ليضاف مصطلح «التجنيس العشوائي» إلى قاموسنا السياسي، وهو في الأصل عبث بالهوية الكويتية حتى إن كان القانون مناقضاً لمواد الدستور، فماذا كانت النتيجة؟ حل مجالس الأمة عشر مرات، وهو رقم قياسي في أي حياة ديموقراطية، بسبب القادمين الجدد، وهي محاولات المقبور صدام حسين نفسها لتغيير التركيبة السكانية الكويتية وتفريغها من أهلها خلال الغزو الآثم، وكأني بهؤلاء المشرعين يقومون بدور أزلام صدام حسين، ليبدلوا كل ما هو كويتي.

في تلك الحقبة الجميلة جاء أبو التراث الكويتي الراحل الشيخ جابر العلي السالم الصباح على رأس وزارة الإعلام ليبدأ مشوار جمع التراث الكويتي بجميع جوانبه من أهله وأدواته، فكان لدينا «صفحات من تاريخ الكويت»، وبرامج سياسية حوارية «المائدة المستديرة»، وبرامج اجتماعية «مع الأسرة» وسهرات تلفزيونية مع فنانين مثل عبداللطيف الكويتي ومحمود الكويتي وعوض الدوخي وعائشة المرطة وعودة المهنا، ودعا الفرق الكويتية الفلكلورية لتقديم فنونها الشعبية، لتعريف الكويتيين بماضيهم بكل مراحله ومواقعه، فسجل أحداثها على أشرطة تسجيلية وأودعها أمانة في عنق الأجيال القادمة خوفاً من التشتت والضياع.

في تلك الحقبة الجميلة اجتهد الكويتيون لضمان مستقبل الأجيال القادمة ولسيادة الوطن، ولهذا لم يكن حينها حاجة لاجترار ماضي الأجداد، وما كان لهم من صولات وجولات في براري الأزمنة المغبرة، أو سبر في أغوار البحارالغائرة، فكل شيء من حولنا كان تاريخاً حياً لأحداث مضت، فالبيوت من حولنا قديمة والآثار العتيقة محفوظة، وشيبان عاشوا مراحل النفط وما قبلها يحومون من حولنا، ويحكون لنا عن أحداث سادت ثم بادت، فلماذا التغني بماضينا وهو موجود بيننا حي يرزق حتى استيقظنا من سباتنا فجأة لنكتشف أن أوضاعنا تبدلت من حال إلى حال، ولم يعد لماضينا من بقية إلا في الذاكرة، فاضطررنا إلى اجترارها ليل نهار علها تكون لنا عظة وعبرة؟