قضية الوعي من أكثر القضايا القابلة للانحراف، بل هي أكثر القضايا التي قد تقود إلى الفوضى، لأنها قضية تعلمية لا تعليمية، وفي القضايا التعلمية تكمن المشكلة بأن الناس لا يريدون أن يتعلموا، بل يريدون أن يكونوا معلمين، وعادة ما يكون التأثير الأكبر ليس للذين أكثر وعياً أو الذين أكثر نضجاً بل للذين أكثر نشاطاً وأكثر اندفاعاً وأكثر رغبة في المغامرة، وعادة ما يكون هؤلاء الأقل وعياً أو المتوهمين بالوعي لكنهم الأكثر تأثيراً بالمجتمعات، فقضية الوعي رغم أنها نوعية لكن انتشارها كمي.
وفي لحظات التقاطعات الشديدة يمكن التوقف أمام نوعين من الذين يعتقدون أنهم واعون، المندفعون لأقصى اليمين والمندفعون لأقصى اليسار، فهم الأكثر بروزاً والأكثر نشاطاً، فلا يندفع لأقصى اليمين إلا قاصر التفكير الذي يتوهم إمكانية وجود مصلحة ذاتية، أو صاحب المصلحة الذاتية الحقيقي الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، ولا يندفع لأقصى اليسار إلا مجنون مغامر أخذ من الوعي قشوره أو مرتزق مأمور لا يملك حرية الرأي الخاص به.
وأما الواعون الحقيقيون أو أصحاب المصالح الكبيرة فإنهم يشغلون المنطقة الوسطى عند التقاطعات دائماً، فأما الواعون الحقيقيون فإنهم يربطون بين وعيهم وما يجري وبين الوقت إن كان مناسباً للعمل أو التوقف، وأما أصحاب المصالح الكبيرة فإنهم لا يعطون باليمين إلا بعد أن يأخذوا بالشمال، ولا يقولون لا إلا إذا تأكدوا أن كفة أصحاب اللا هي الراجحة.
ولذلك فإن المجتمعات الخاملة سياسياً هي مجتمعات واعية بطبيعتها تخضع للمهنية الحقيقية، والمجتمعات الناشطة سياسياً هي مجتمعات فوضوية تخضع للعاطفة، والفرق بين النوعين يكمن في صناعة الوعي من الأساس، فالنشاط السياسي هو نشاط كفائي بطبعه، فحيث يوجد في المجتمع قادة للوعي يكتفي المواطن العادي بدعم قادته ويميل للإنتاج العملي ويخمل سياسياً، وحيث يخمل قادة الوعي ويقصرون عن القيام بدورهم ينشط أنصاف الواعين وأرباعهم وأعشارهم ويرون أنفسهم قادة في ساحة شاغرة، حيث يملك هؤلاء الطفيليون الجرأة في السعي للصعود الى القمة التي تخلى أصحابها عنها.
ورغم أن أمثال هؤلاء المتوهمين لن يكونوا قادة في يوم من الأيام مهما توهموا أن الظروف تخدمهم، فإن الخاسر في مثل هذه الحالة المجتمع الذي ستسوده ثقافة الفوضى، فالمجتمع الواقف مكانه أفضل حالاً من المجتمع الذي يتبع قادة يسيرون به إلى الاتجاه الخطأ، وقد قرأت مرة عن تاجر مخدرات شاب كانت نطارده الشرطة وأهل الحي ركضاً بين الأزقة وفي مقدمة المطاردين مراهق يركض بحماس وسرعة أكبر من الشرطة والراكضين معهم، وبعد لحظات توقف المراهق بعد أن قاد الجميع إلى الاتجاه الخطأ، وترك التاجر يجري في الاتجاه المعاكس، حيث اكتشفوا بعد ذلك أنه الأخ الأصغر لتاجر المخدرات، ورغم أن الأمثال تضرب ولا تقاس، فإنه يمكن أن نقيس شقيق تاجر المخدرات بمراهق الوعي الذي يقود الجميع في الاتجاه الخطأ.
على أن قطار الوعي يسير دائماً ببطء شديد، ويتوقف أو يتباطأ بحسب حركة قادة الوعي في المجتمع، في حين قطار السياسة دائماً ما يسير بسرعة فائقة، ولا ينتظر أحداً، بل إن من ينزل من قطار السياسة برغبته أو (غصباً عنه) لن يركب القطار من جديد، فمعظم السياسيين الكبار في العالم الذين خرجوا من المسرح لم يعودوا، وأما الساسة الصغار أو الهواة فلا أحد يتذكر متى دخلوا المسرح ومتى خرجوا منه، ففي السياسة: «الموتى لا يعودون إلى الحياة أبداً».