يعد فتح مكة حدثاً تاريخياً بارزاً، هز أرجاء جزيرة العرب وما جاورها من الممالك والدول التي راحت على صداه تعيد النظر في حساباتها وهي ترصد هذا المشهد الذي فرض نفسه على أرض الواقع كشاهد حي حقيقي على إمكانية انقلاب موازين القوى بين يوم وليلة.
فتحت مكة التي تبرز عظمتها في كونها تنفرد بوجود معلم ديني تقصده قلوب العُباد الذي ساهم بدوره بشكل جبار في تفعيل حركة الاقتصاد في تلك القرية الكائنة في قلب جبال الحجاز الجرداء لتغدو بفضله مركزاً تجارياً ضخماً تضرب إليه أكباد الإبل من كل حدب وصوب.
وعلى الرغم من أهمية هذا الحدث الجلل على الصعيد السياسي والاقتصادي والديني فإنه كان يضم في جنباته مشاعر إنسانية رقيقة المعنى مرهفة الحس، تحملها فئة مخضرمة تنضوي تحت كتيبة من كتائب ذلك الجيش المهيب، إنها الكتيبة الخضراء إنهم فئة «المهاجرين».
وهم أُناس اضطرتهم الظروف إلى ترك بلدهم هرباً من التنكيل الذي كان يمارس ضدهم بسبب رغبتهم في الخروج من دائرة المعتقد السائد فما كان منهم إلا الرحيل عن ذلك البلد الذي أضحى يختزل حياتهم ضمن متضادين كبيرين أولهما ذكرى لكل ما هو مؤنس، وثانيهما عذاب متواتر متبوع بأذى غير منقطع!
ولأن حب الأرض فطرة تزرع في النفوس لم يغب هذا الحب عن وجدان هذه الفئة، بل بدأ يظهر على شكل مشاهد مفعمة بالحنين إلى الديار، ففي لحظة وهن فاضت الأشواق في صدر بلال الحبشي الذي راح يردد بصوت مسموع وهو منهك طريح الفراش في يثرب: «ألا ليت شعري هل أبيتن بوادٍ وحولي أذخرٌ وجليلُ»، وحين بلغت حاله هذه المصطفى عقب عليه قائلاً «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد»، ومن أشد حباً لمكة غيره، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فهو من فارقها فراق المحبين المرغمين على الرحيل.
لتنطوي بعد الهجرة الأيام وتدور الدوائر على من بغى، فيدخل هؤلاء الرجال أم القرى في وضح النهار على رأس جيش جرار، يعودون اليوم فاتحين أشرف بقاع الأرض، يعودون اليوم إلى أرض الوطن، تعلو وجوهم ملامح الفخر، تخفق قلوبهم على وقع حوافر الخيل، متجهين إلى حيث ترقد قبلتهم، بعيون مغلقة يرفعون رؤوسهم إلى السماء ليشتموا هواء الوادي المحمل بالذكريات، يتفحصون بيوتات صناديد قريش التي خلا معظمها من ساكنيها، كل شيء كان في مكانه عدا الوجوه المكفهرة التي كانت تناطح الحق فاليوم لم يعد لها وجود.
ويستمر هذا الركب في التقدم حتى تحط به الرحال أمام الكعبة ذلك البنيان العظيم الذي ما زالت العرب تقدسه منذ قيامه والذي ظلت قريش دائماً وأبداً تتباهى بخدمته وإكرامه.
تقف أمامه اليوم تلك الأفئدة التي فارقته مجبرة لتغرقه بنظرات ملؤها الإعجاب المطلق، نظرات تحمل في طياتها عظيم الإجلال لرب هذا البيت الذي صدق فأنجز وعده على يد ابن عبدالمطلب، شريف مكة، ابن الذبيحين، الذي ما إن استكان جيشه حتى وقف خطيباً في «قريش» سيدة العرب وحامية حمى البيت الحرام، رأس الكفر ومنبع الوثنية، ليعلن على الملأ وفاة الشرك وولادة دين التوحيد.
عاد محمد إلى مكة بعد أن فارقها طريداً... عاد محمد إلى مكة ليضمها إلى حوزة الدين الجديد... فما أجمل العودة إلى الوطن! وما أجمل «مكة» بين الأوطان!