أزمة التجربة ومحنتها

الأمر الأميري الذي صدر بتعطيل الحياة النيابية أربع سنوات، كان متوقعاً كما كان الأمر الطبيعي، وقد سدت كل الطرق، وأوصدت كل الأبواب، للتعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بما يحقق استقرار الحكم الذي هو العمود الفقري للدستور، كما خطط لذلك الآباء الأوائل الذين أقروه، على أساس من روح الأسرة التي تربط بين الناس جميعا حكاما ومحكومين في هذا البلد على مر العصور.

Ad

لذلك كانت التجرية الديموقراطية الكويتية تجربة جريئة، لها ما لها وعليها ما عليها، أثرت فيما حولها من شعوب، بما حققته هذه التجرية من عدل سياسي وعدل اجتماعي، سعد بها شعبها قليلاً وشقي كثيرا أمام تراجع التنمية الاقتصادية المستدامة لإخفاق الحكومات المتعاقبة في تحقيق ذلك، بسبب إفراط بعض النواب في استخدام حق الاستجواب، وطرح الثقة بالوزراء، قبل أن يجف مداد مرسوم تشكيل الحكومة، التي حمل الوزير إحدى حقائبها، بل التلويح باستجواب الوزراء، قبل التشكيل، بل التلويح باستجواب رئيس الحكومة- قبل تشكيلها- إذا اشتمل هذا التشكيل على تجديد ثقة الأمير بأسماء بذاتها، بما ينطوي على اغتصاب لسلطة الأمير، فضلا عن ابتزاز الوزراء لحملهم على تلبيه مصالح فئوية وشخصية لبعض الناخبين، بل إقرار مجلس الأمة للتشريعات بما يحقق هذه المصالح، وذلك بالمخالفة للدستور، الذي ينص على أن النائب يمثل الأمة بأسرها ويرعى المصلحة العامة.

وقد بلغ السيل الزبى على مستوى التشريع، فأهدرت بعض التشريعات التي أقرها مجلس الأمة في الآونة الأخيرة ما يفترض أن يتمتع به كل تشريع من خاصيتين أساسيتين هما العمومية والتجريد، لتحقيق أهواء سياسة لدى البعض ولرد الدولة على القبيلة، وبما ينطوي عليه ذلك من مساس بمبادئ الحرية المنصوص عليها في الدستور، والتي حظر الدستور في المادة (175) اقتراح تنقيحها ما لم يكن التنقيح لمزيد من ضماناتها.

وفي هذا السياق أقر مجلس الأمة قانونا يمثل عدواناً على حرية من الحريات التي نص عليها الدستور، وهي حرية تكوين الجمعيات بتأميم غرفة تجارة وصناعة الكويت، وهي أقدم منظمة من منظمات المجتمع المدني التي نشأت قبل صدور الدستور، وتعتبر موروثا تاريخيا شعبيا، بل تمادى بعض النواب في الاستخفاف بتقليد برلماني موروث، باحتلال مقاعد الوزراء التي خصصت لهم منذ بدء الحياة البرلمانية في 31 يناير سنة 1963، مباهين في ذلك بقوتهم ومعتزين بشدة بأسهم.

وأعتقد اعتقادا راسخا أن التجربة الديموقراطية الكويتية ستستعيد مكانتها في قلوب الشعب الكويتي والشعوب الخليجية والعربية، كما ستستعيد مكانتها كواحة للديموقراطية في الوطن العربي في أقرب وقت بإذن الله.

وإن الشعب الكويتي قادر على أن يتعلم من هذه التجربة التي مارسها خلال ستة عقود من الزمان، وقد رسخ إيمانه بالديموقراطية في ظل هذه التجربة الطويلة، مما يعينه على استعادتها بعدالة وإنصاف، في تعاون مبدع بين أطراف المعادلة السياسية كافة، الحكومة ومجلس الأمة ومنظمات المجتمع المدني، فالأطراف الثلاثة تؤلف بينهم غاية واحدة، ابتغاء وجه المصلحة العامة، ويفترض أن يجمعهم احترام متبادل بعيدا عن النيل والتعريض، بما لا يخرج بالممارسة الديموقراطية عن مجراها الطبيعي، ليلقي بها في منعطفات تقصيها عن تحقيق أهدافها وقد تجعل أمرها فرطا.

ومن مقومات نجاح أي تجربة استمرارها دون توقف إلا بما يتيح للأمة الاستفادة من أخطاء التجربة في الماضي، بالمعالجة السريعة لهذه الأخطاء، بتعديل بعض مواد الدستور، التي كانت السبب المباشر فى هذه الأخطاء، والتي تنظم أحكام الاستجواب والمساءلة السياسية، وهي المواد (100) و(101) و(102) من الدستور.

وباعتبار أن تعديل الدستور في هذا النطاق وفي هذه الحدود، هو ضرورة بالنسبة للدستور وهو وثيقة تقدمية لحقوق الإنسان، استطاع أن يحقق ما لم يحققه أي دستور أو نظام سياسي آخر من عدل سياسي وعدل اجتماعي، فالضرورة تقدر بقدرها، بما لا يجوز معه الانقضاض على أحكام الدستور جميعها وإبدالها بغيرها، فدستور الكويت، لا يزال مفخرة الكويت، ولم يكن أبدا عقيما أو نبتا بغير ثمار، أو سيئا بكل مشتملاته.

والتعديل الشامل أو الكامل لنصوص الدستور، وهو ما قد يغري بعض الخبراء الدستوريين أو الأكاديميين، قد يؤدي إلى إبدال النظام السياسي بنظام مختلف عنه يحل محله، ويقوم على أنقاضه بما يدخلنا في تجربة جديدة لا نستطيع تحمل أخطارها وعواقبها وتداعياتها، عندما يخيب النظام السياسي الجديد الآمال الوطنية، ولا يضمن صون حقوق المواطنين بل قد يهدر هذا التعديل الشامل الضمانات التي وضعها الدستور في النظام الوسط الذي تبناه بين النظامين البرلماني والرئاسي مع انعطاف أكبر نحو أولهما هي ضمانات كانت كفيلة بتحقيق التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، لولا إساءة بعض النواب لاستخدام حقوقهم الدستورية في المواد (100) و(101) و(102)، فتعديل أحكام هذه المواد وحدها يصبح ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.

وغني عن البيان ومع ما هو معلوم من أن دستور الكويت يعتبر أيقونة الدساتير العربية، بل إن الكويت تستطيع أن تزهو وتفتخر به أمام الدساتير المقارنة في الدول المتقدمة، وقد خرجت هذه التجربة من رحم وثيقة تقدمية لحقوق الإنسان، هي دستورها الصادر سنة 1962 الذي جعل من الحرية والعدل والمساواة مقومات أساسية للمجتمع الكويتي، ومن الملكية ورأس المال والعمل أساسا لكيان الدولة الاجتماعي، ليرسخ الدستور بذلك العدل السياسي والعدل الاجتماعي معا، وهو ما حققته دولة الكويت على مدى أكثر من نصف قرن، على مستوى التشريع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وعلى مستوى التطبيق العملي، وهو ما لم تستطع أن تحققه أي دولة من دول العالم، فمن هذه الدول من استأثرت فيه أقلية بالعدل والثروة دون الناس، ومنها دول حققت العدل الاجتماعي لفئة كبيرة من الناس، هي الطبقة العاملة وحرمتها من العدل السياسي والحرية، فساد الظلم بين الناس جميعا.