يبكيك الوطن يا أستاذ حمزة
أقلب صفحات الذكريات، فأتذكر أيام دراستي الجامعية لمرحلة البكالوريوس في الولايات المتحدة بشوق وحنين، يعود بي قطار الزمن إلى ذلك الشاب المغترب لدراسة الهندسة الكهربائية، ذاك التخصص العلمي لم يمنعه من الغوص في بحر اللغة العربية، فهو قد قضى سنواته تلك كأحد أفراد أسرة تحرير مجلة اتحاد الطلبة هناك «نبراس» حتى ترأس تحريرها، يكتب المقالات ويجري المقابلات وينشر التحقيقات ويصحح الأخطاء الإملائية والنحوية لكل المشاركات والكتابات التي تصل للمجلة.
يتوقف قطار الذكريات عند تلك المحطة مندهشاً، فسبحان مغير الأحوال، ذلك الشاب هو ذاته الصغير الذي استدعى معلم اللغة العربية في الصف الأول المتوسط والدته يشكو لها ضعفه في النحو، فمن كان «نبراس» ذاك التحول؟ ومن غرس بذرته؟
قضيت صفي الأول المتوسط وأنا أرفع المنصوب وأجر المرفوع، حتى ندبت قواعد النحو حظها تريد الخلاص مني، فكان أن سمعت والدتي- جزاها الله عني خيراً- أن أحد معلمي اللغة العربية في مدرستي الابتدائية التي تخرجت منها- مدرسة عبدالمحسن البحر- ينظم للمرة الأولى دورة تدريبية صيفية لإعداد الفائقين من خريجي المرحلة الابتدائية في مدرسة عبدالمحسن البحر لتأهيلهم للمرحلة المتوسطة، فتوسطت لي عنده بأن يضمني معهم، وأنا المقبل على الصف الثاني المتوسط، كان معلمنا هذا يستخدم طرقاً مبتكرة لتوصيل المعلومة، وكانت حصصه مليئة بالمرح، وكان يحفزنا لنحب اللغة العربية ونتعلمها بشغف... تغيرت حالي بأن أتقنت مهارات الإعراب حتى أصلحت علاقتي المنكسرة مع النحو والصرف، وغدت علاقة ملؤها الحب والود، نعم كان هو ذاك الرجل نبراس التغيير، معلمي الذي لا أنسى فضله أبد الدهر، الأستاذ حمزة الخياط.
بدأت علاقتي بالأستاذ حمزة في النصف الأخير من التسعينيات في مدرستي الابتدائية، كان رئيسا لقسم اللغة العربية، ورغم أني لم أحظ بشرف تدريسه لصفي، فإني وباقي زملائي قد نعمنا بثمرات عطائه وحبه، تجده ضيفاً غالياً على النفس في كثير من حصصنا، يشرح لنا بعطاء لا ينضب، ويوجهنا، ويمزح معنا، نفتح كتاب اللغة العربية في زمن «أنا سالمٌ، أختي عبيرُ» الجميل، فتجدنا نقلب الغلاف بفخر واعتزاز إلى الصفحة الأولى التي زينها اسم أستاذنا المحبوب حمزة كأحد مؤلفي المنهج.
رحلة الاستفادة من علم الأستاذ حمزة تصحبك مهما بلغ بك العمر، أتذكر جيداً كلمات مدرب دورة كتابة التقارير باللغة العربية في فترة التحاقي بأحد البرامج التدريبية بعد تخرجي من الجامعة، والذي صرفت الدولة الأموال في استقدامه من لندن، رد المدرب هذا على متدرب زميل شكا له صعوبة معرفة طريقة كتابة الهمزة بأن أيده أن لا وجود لقاعدة في كتابة الهمزات، وأن ليس للمرء بد من أن يحفظ تنوعها في الكلمات كحال حفظه تهجئة الكلمات الإنكليزية التي لا وجود لقاعدة تؤصلها، استنكرت وشكوت لزملائي هذا التجاوز، فقد ذكرتني الهمزة بأستاذي حمزة، فهو الذي ما انفك يذكرنا بمقارنة حركة الهمزة بحركة الحرف الذي يسبقها، فاليد العليا للكسر، ويليها الضم، فالفتح، ثم السكون.
لن أدّعي أن جيلي الدراسي لم يعان من قواعد النحو والصرف التي كانت ضيفاً ثقيلاً على كثير منا، إلا أن ما نَعمتُ به من أساسيات غرسها الأستاذ حمزة لم يحظ به الكثيرون في صغرهم، واليوم- وأنا أستاذ في الجامعة- لا يخفى عليَّ أنها أصبحت ضيفاً أثقل على من تبعنا من أجيال، فلا يزال النظام التعليمي يواجه تحديات كبيرة في تعليم اللغة العربية، فالإشكال تعدى النحو والصرف لنناقش ضعف مستوى خريجي الثانوية وحتى الجامعة في أساسيات القراءة والكتابة، ولا يخفى هذا الضعف على أولياء الأمور الذين وقفوا في الصفوف الطويلة ليقتنوا لأولادهم الموسوعة الإملائية التي أصدرها الأستاذ حمزة ووزعها بالمجان قبل بضع سنوات، وجميعنا فرحنا برد فعل وزارة التربية آنذاك على تلك الجموع المثنية على جهود الأستاذ حمزة، وذلك بإصدارها قراراً بإسناد مهمة تطوير مناهج اللغة العربية للأستاذ حمزة، إلا أن ذلك القرار قد غدا حبراً يبكي على أوراق حبستها الأدراج العتيدة في الوزارة طيلة السنوات الخمس الماضية.
وجيل اليوم هو في أمسّ الحاجة لأمثال الأستاذ حمزة، فهو لم يكتف بويلات ضعف النظام التعليمي فقط، بل كتبت معاناته على أيدي أقرب الناس إليه من الأمهات والآباء، فتجد الكثيرين منهم يتباهون بإتقان أولادهم اللغة الإنكليزية، بل يحرصون على ضبط اللكنة الأميركية، حتى وصلت الحال بأن تكون الإنكليزية لغة التواصل مع أولادهم في البيت، أما العربية فقد تاهت بعيداً عن تلك الألسن تبكي عقوق أبناء جلدتها، وهي في الوقت نفسه تنظر إليهم بعين الرأفة لما آلت إليه حالهم من انعزال عن الواقع، فضياع اللغة هو ضياع الدين والثقافة والهوية والتاريخ في أنفس هؤلاء الصغار المساكين.
أدرك الأستاذ حمزة تلك المتغيرات، فلم يكتف بإصدار المؤلفات وعقد الدورات، فقد رفض مغريات دول مجاورة عرضت عليه احتضان علمه وإطلاق عنان إبداعه، فأبى إلا أن ينعم أبناء وطنه بذلك، ولطالما طلب الأستاذ حمزة من المسؤولين أن تُعهد إليه إحدى مدارس رياض الأطفال المغلقة منذ زمن بعيد، التي غدت أطلال زمن جميل قد مضى، وأن يسمح له باستغلال تلك المرافق المهملة لتشرق شمسها من جديد، ويشع نور العلم في مرافقها المهجورة، وتعهّد بتأسيس روضة يشار إليها بالبنان بتميز مناهجها وطرق تدريسها وتنمية القدرات العقلية للطفل وغرس حب القراءة والتعلم في نفسه، ولم يمانع أن يدفع مقابل ذلك الحلم الجميل المبالغ المالية للدولة نظير استخدام تلك المنشآت المتهالكة، فكان أن أغلقت الأبواب في وجه ذلك الطلب ليُحكم عليه بالعيش في الظلام الدامس كحال تلك المدارس الموصدة.
لقائي الأخير بأستاذي كان في الصيف الماضي، رأيت معلمي الذي كان يمازحنا بقوته العضلية حين يرفع أجسادنا للأعلى بيد واحدة في مدرستنا الابتدائية في حال أخرى، وقد أنهكت جسده أعباء المرض، لكنك حتماً حين تراه يعلم الأطفال وهو جالس على كرسيه ستدرك فوراً أن عطاءه وروحه الجميلة لم يتغيرا قط، عرّفته باسمي فلم يذكرني، وما حالي إلا مثل الكثيرين من الأجيال المتعاقبة الذين إن نسيهم هو فإنهم لن ينسوا له جميل صنيعه ما حييوا.
إن تكريم حمزة الخياط اليوم لا يمكن أن يقتصر على وضع اسمه فوق جدران مدرسة أو على لافتة شارع، بل يكمن التكريم الحقيقي له في استمرار إرث أفكاره وإبداعه، وتبني مناهجه، واحتضان رفاق دربه في «مركز الإبداع اللغوي» الذي أسسه، وتوفير كل الدعم اللازم لاستمرار نجاح هذا المركز وتطوير أعماله، لتستمر روافد تعليم اللغة العربية للجيل الحالي وأجيالنا القادمة.
ومن هذا المقام لا يفوتنا شكر من لم ينس الأستاذ حمزة فضلهن باحتضان مركزه، وهن السيدات الفاضلات القائمات على الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية وبالأخص السيدة لولوة الملا رئيسة مجلس الإدارة.
واليوم يعتصر قلبي ألماً وأنا أرثي معلمي حمزة أتساءل: كم من حمزة لنا اليوم من المبدعين في مختلف المجالات ينتظرون من الدولة وأصحاب القرار فرصة لينعم الوطن بإبداعهم؟
اليوم وقد بكى الوطن حمزة مرتين، الأولى لوداعه- رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- والثانية لأنه لم يمنح الفرصة الكافية لاستفادة الوطن من طاقاته وإبداعه، حق لنا أن نسأل: كم حمزة آخر سيبكيه الوطن في الغد؟
* أستاذ الاقتصاد في جامعة الكويت.