تعود فكرة الجمعيات التعاونية إلى القرن التاسع عشر في بريطانيا، حيث ظهرت استجابة للتحديات الاقتصادية التي كانت تواجه العمال والمزارعين خلال الثورة الصناعية، وكان أحد أبرز رواد هذه الفكرة روبرت أوين، الذي كان داعما قويًا لنشر التعليم والعدالة الاجتماعية وتحسين الظروف المعيشية للطبقات العاملة والفقيرة. وتركزت الجمعيات التعاونية في البداية بقطاع الزراعة، قبل أن تمتد مع مرور الوقت لتشمل قطاعات التجارة والخدمات والإسكان والتموين، وما لبثت هذه الفكرة أن امتدت إلى خارج بريطانيا، وأصبحت جزءاً أساسياً من اقتصاديات العديد من بلدان العالم.

وفي الكويت تعود نشأة الجمعيات التعاونية الاستهلاكية بشكلها الحالي الى عام 1962، عندما صدر قانون يحدد كيفية إنشائها ونظام العضوية فيها ونمط إدارتها والرقابة عليها وحلها وتصفيتها. ومنذ ذلك التاريخ تزايد عدد الجمعيات التعاونية في الكويت بشكل مطّرد، حتى وصل عددها اليوم إلى أكثر من 70 جمعية تعاونية تهيمن على نحو 75 بالمئة من تجارة التجزئة في الكويت.

Ad

وبشكل عام، فإن الأهداف المعلنة للحركة التعاونية في الكويت تتماشى إلى حد كبير مع أهداف نظيراتها في دول أخرى، والتي يمكن إيجازها في الآتي:

أهداف اقتصادية مباشرة:

تتمثل في توفير السلع والخدمات بأسعار مناسبة وجودة عالية للأعضاء.

أهداف مجتمعية تشمل:

- دعم قدرات أفراد المجتمع من خلال الدعم التقني والتسويقي والمالي.

- تعزيز الوعي المالي وتشجيع أفراد المجتمع على الاستثمار والتوفير.

- تعزيز التضامن والتعاون بين الأفراد في المجتمع.

- دعم مشاريع تطوير المجتمع من خلال الفعاليات المجتمعية، والبرامج الثقافية.

ورغم هذا التقارب الظاهري في الأهداف، فإن هناك اختلافا جوهريا بين نموذج التعاونيات في الكويت والنماذج السائدة عالميا، فبينما تتكون النماذج الأخيرة من أنشطة تطوعية أهلية، وفي الغالب لا تحظى بأي دعم حكومي، فإن الجمعيات التعاونية في الكويت أشبه بأنشطة ذات طبيعة احتكارية منظمة regulated monopolies تحظى بالهيمنة الجغرافية على منطقة بعينها، وبتوفير موقع الأرض والبنية التحتية، إضافة الى الدعم المالي، مقابل الالتزام بعدد من معايير الأداء تعكس الأهداف الاقتصادية والاجتماعية التي أنشئت من أجلها. وقد أوكل المشرّع لوزارة الشؤون الاجتماعية مهمة ترخيص الجمعيات التعاونية والرقابة على أدائها.

تطوّر دور الجمعيات التعاونية

من المؤكد أن الجمعيات التعاونية في الكويت قد أدّت دورا اقتصاديا فعالا وملموسا في السنوات الأولى لظهورها، حيث ساهمت بشكل فعال في سد حاجات المستهلك في وقت لم تكن أنشطة القطاع الخاص قادرة على توفير كل تلك الاحتياجات، أو لنقل إنها لم تكن مكتملة النضوج. إلا أنه وبمرور الوقت ظهرت العديد من السلبيات لهذا النمط من الحركات التعاونية، والتي يمكن إيجازها في التالي:

1. تزايد أعباء الرقابة الإدارية وتكلفة الدعم المالي على الدولة، حيث تفشت في السنوات الأخيرة حالات الفساد الإداري والرشوة والاستغلال من قبل بعض أعضاء مجالس إدارة التعاونيات، ‏مما حدا بوزارة الشؤون الى التدخل مرارا بحلّ مجالس الإدارات واستبدالها بمجالس بديلة، كما عمدت تباعا الى استحداث تشريعات أكثر صرامة وتعقيدا لوقف الفساد المستشري، متكبّدة في الوقت نفسه أعباء مالية لتعويض الخسائر التي تلحق بالمساهمين بسبب الفساد وسوء الإدارة والتخطيط.

2. تزايد التداعيات السلبية على الاقتصاد المحلي، فبينما تمثل مبيعات الجمعيات التعاونية نحو 75 بالمئة من إجمالي مبيعات قطاع التجزئة في الكويت، ويتزايد دورها اتساعا وانتشارا جغرافيا، إلا أن كفاءتها التشغيلية تعتبر منخفضة مقارنة بمثيلاتها من شركات القطاع الخاص، ويعود ذلك غالبا الى نقص الخبرات الإدارية بسبب تغيّر مجالس الإدارات المستمر، وضآلة حجم عملياتها نسبيا، وكثرة القيود التشريعية والتنظيمية المفروضة عليها من قبل الدولة. ومن هنا، فان توسّع دورها في قطاع التجزئة يعني تضخم التشوهات الاقتصادية المصاحبة لتدني كفاءتها. كما يترتب على الدعم غير المتكافئ الذي تقدّمه الدولة لهذه الجمعيات أثر سلبي على نمو وتوسع القطاع الخاص في مجال مبيعات التجزئة وإنشاء منافذ التسويق المتخصصة، والأسواق المركزية.

3. ضعف التركيز على تحقيق الاهداف الاجتماعيه وخدمات المجتمع، حيث تتجه أنشطة التعاونيات في مجملها الى التركيز على العمليات التجارية التي تهدف الى تعظيم الأرباح، مثل إدارة عمليات البيع والشراء، وتأجير مرافق الأنشطة المتعددة الأخرى داخل السوق المركزي والفروع وخارجه. ووفقا لأهداف إنشائها يتعيّن على الجمعيات أيضا أن تكرس بعض جهودها ومواردها لتقديم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية لخدمة المجتمع المحيط من خلال تخصيص نسبة من الأرباح التشغيلية في كل عام. لكن الشواهد التاريخية حتى الآن تبيّن أن هذه الخدمات كانت في الغالب متواضعة من حيث الفاعلية أو الموضوع، حيث دار معظمها حول عروض السياحة أو رحلات العمرة أو الدروس الدينية وتجهيز بعض المرافق الصحية والحدائق. ويعاب على بعض الجمعيات عدم قدرتها على استقطاب المساهمين وتفعيل المشاركة الديموقراطية بسبب تكرار فضائح الفساد والشعور بعدم الثقة بقدرة أعضاء مجلس الإدارة على حماية وتمثيل مصالحهم وتطلعاتهم.

مستقبل الجمعيات التعاونية

مما ورد بيانه أعلاه، تعتبر الجمعيات التعاونية في الكويت أنشطة أهلية خاصة منظمة تعود ملكيتها الى الأعضاء المساهمين، ونشاطها ذو طبيعة احتكارية، حيث إنها تتفرد بخدمة منطقة بعينها، بينما يقتصر دور الحكومة على الإشراف على تلك الأنشطة ومتابعة أدائها. ومن المتعارف عليه عالميا أهمية إخضاع الأنشطة الخاصة المنظمة ذات الطبيعة الاحتكارية الى مراجعات دورية لتقييم مدى الحاجة إلى إجراء تعديلات في نصوص اللوائح والقوانين التي تنظم عملها، أو الغاء طابعها الاحتكاري بصفة نهائية. وتتم المفاضلة بين هذين الخيارين في ظل مستجدات السوق، وتطور المنافسة، وتغيّر احتياجات المستهلكين، والتطورات التكنولوجية، ووفقا للتجارب السابقة من حيث قدرة الجهاز الرقابي على أداء دوره بنجاح وفعالية.

ووفقا للمعطيات المذكورة أعلاه، فإن هناك في تقديري حاجة ماسة للقيام بدراسة جادة لتقييم الجدوى الاقتصادية لاستمرار النظام التعاوني القائم في الكويت، وتحديد طبيعة التعديلات المطلوب إدخالها من أجل تطويره، أو ربما التحول الى خصخصة هذه الأنشطة ونزع الطابع الاحتكاري عنها.

وفي حالة اختيار بديل الخصخصة، ينبغي أن تشمل عملية التحول الاعتبارات التالية:

- سن تشريعات لمكافحة الاحتكار في قطاع الأسواق المركزية، وتحديد قواعد المنافسة، وشروط الاندماج والاستحواذ، بغرض حماية المستهلكين من الارتفاع المصطنع في الأسعار.

- طرح حقوق الامتياز لإدارة الأسواق المركزية في مزايدات مفتوحة أمام شركات القطاع الخاص، شريطة ألا تتجاوز حصة الشركة الواحدة أكثر من 20 بالمئة من حجم السوق.

- قيام الجمعيات التعاونية بتحصيل إيرادات التعاقد، ونسبة من إيرادات المبيعات للأسواق المركزية التي تتم خصخصتها، ويتم استخدامها في تقديم الخدمات الاجتماعية للمنطقة.

- في خطوه إضافية، يتم تدريجيا إعادة تشكيل إدارات الجمعيات التعاونيه لتضطلع بمهام ووظائف جديدة تمارسها حاليا هيئات عامة ومؤسسات حكومية مثل المجلس البلدي، والبلدية والهيئة العامة للبيئة، ويكون هذا الدور الجديد لإدارات الجمعيات مشابه للدور الذي تؤديه المجالس المحلية أو المجالس البلدية في الدول الأخرى، التي تشمل مهامها توفير بعض الخدمات الأساسية مثل إدارة النفايات، وتنظيف الشوارع، وصيانة الحدائق والمرافق الترفيهية وإدارة استخدام الأراضي ودعم مشاريع تطوير المجتمع، والفعاليات المجتمعية والثقافية، على أن يتم ذلك من خلال تنسيق الجهود مع الخدمات الموازية التي توفرها وزارات الدولة وأجهزتها.

ولا شك في أن هناك عددا كبيرا من الآراء التي تفضل الإبقاء على الوضع القائم بسبب التخوف من البديل المجهول، وتميل الى تعزيز النظام الرقابي الراهن، وتحديث القوانين واللوائح. الا أن التجارب في بلدان أخرى متطورة لا تحبذ هذا المسار، بل تؤكد صحة ما توصل اليه الاقتصادي النمساوي (الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد)، فريدريك هايك، قبل نصف قرن من أن «القطاع الخاص سيكون قادرا دوما على التفوق وتجاوز القوانين التي تسنّها الجهات التنظيمية».

* خبير اقتصادي