لم يتردد الرئيس التونسي قيس سعيد منذ انتخابه عام 2019 في انتقاد «الإملاءات الأجنبية»، في سلوك اعتبره مراقبون استعدادا تونسيا لمراجعة تحالفاتها الاستراتيجية، وزحزحة قدمها من الغرب نحو الشرق، يعززه تقارب مع روسيا والصين وإيران، مقابل فتور مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

ولئن تبدو هذه القراءات في الوهلة الأولى مبالغة، إلا أنها اكتسبت في الأشهر الأخيرة زخما، خصوصا بعد أن تحدثت تقارير إعلامية غربية مؤخرا عن نشاط طائرات عسكرية روسية جنوب شرق تونس، ما أثار تساؤلات بشأن حقيقة هذه التحركات ودلالاتها في ظل حساسية الوضع بالمنطقة.

Ad

اختراق روسي

وبينما تحدثت قناة «ال سي اي» الفرنسية عما أسمته «اختراق روسي لتونس»، أكدت صحيفة «لا ريبوبليكا» الإيطالية أن طائرات عسكرية روسية هبطت في مطار جربة، الجزيرة التونسية المتاخمة لليبيا، مشيرة إلى «الحضور القوي» لموسكو في منطقة الساحل، التي طردت مؤخرا القوات الفرنسية والأميركية.

وحذرت «لا ريبوبليكا» من أن التواجد الروسي في تونس قد يكمل «اختراق» المنطقة، في حين لم تعلق تونس رسميا على الموضوع، خاصة أنها «مرتبطة تقليدياً بالمعسكر الغربي، ويرتبط جيشها ارتباطاً وثيقاً بالولايات المتحدة»، حسبما أكد مسؤول أوروبي لصحيفة لوموند الفرنسية، مؤكدا أن «تقارب تونس مع روسيا يبقى في هذه المرحلة نظريا جدا».

غير أن العلاقة بين تونس وروسيا تعززت بالفعل منذ زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لتونس في ديسمبر الماضي، إذ ضاعفت تونس خلال 2023 وارداتها من «الفحم والنفط ومشتقاته» الروسي، رغم العقوبات الدولية المفروضة على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا.

ورأى دبلوماسي غربي أن تونس تعد في هذه المرحلة «أرضا خصبة مواتية» لتعزيز التواجد الروسي، لاسيما مع المرارة التي يشعر بها التونسيون إزاء «المعايير المزدوجة» للأوروبيين والأميركيين في الحرب بغزة، ما يخدم خطاب موسكو بشأن الغرب غير المؤهل أخلاقيا.

من جانبه، أوضح الباحث التونسي في معهد دراسات الدفاع والأمن جلال حرشاوي أنه في سياق يتميز بالاختراق الروسي لمنطقة الساحل وليبيا، فإن «قيس سعيد هو ثمرة ناضجة تنتظر السقوط في أيدي الروس».

تقارب مع إيران

وصبت مشاركة الرئيس التونسي في جنازة نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، الذي توفي في حادث تحطم مروحية، ولقائه المرشد الأعلى علي خامنئي، الزيت في نار «التحول الملحوظ في دبلوماسية تونس»، ما أثار تساؤلات حول الموقع الاستراتيجي لتونس، وفق ما أوردت «لوموند» الفرنسية.

وأشارت الصحيفة إلى أن سعيد، الذي طالما أشاد بـ«إرادة الشعوب المتحررة من الاستعمار»، وانتقد «الإملاءات الأجنبية»، يسعى إلى الحصول على التمويل الضروري لإنقاذ الاقتصاد التونسي من الإفلاس.

في هذا السياق، اعتبر الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط حمزة المؤدب أن «سعيد يواصل منذ رفض التوقيع على اتفاق مع صندوق النقد الدولي بشأن قرض بقيمة 1.9 مليار دولار إرسال رسالة إلى الأوروبيين والأميركيين، مفادها أن تونس تمنح نفسها الحق في إقامة أو تعزيز العلاقات مع قوى أخرى، بما في ذلك القوى المعادية للغرب».

بوصلة نحو الصين

في هذه الأثناء، تلقى الرئيس التونسي دعوة من نظيره الصيني للمشاركة في منتدى التعاون العربي الصيني، الذي يفتتح اليوم، ومنتدى التعاون بين الصين والدول الإفريقية، الذي يعقد في سبتمبر المقبل، إضافة إلى دعوة للمشاركة في مؤتمر مبادرة «طريق الحرير» من 28 مايو إلى 1 يونيو، ليلتقي قيس سعيد للمرة الثالثة خلال عامين رئيس ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، شي جين بينغ.

وبينما تحدث مراقبون عن سعي سعيد إلى ضم تونس لـ«تحالف الجنوب العالمي»، الذي تعمل الصين وروسيا على إنشائه لتحقيق توازن جديد في العالم، دعا الكاتب الصحافي التونسي منصف قوجة إلى «أن نتذكر أن الولايات المتحدة اختارت تونس كحليف استراتيجي من خارج الناتو».

وأوضح قوجة، في مقال تحليلي بعنوان «العالم يتحرك وتونس تعيد تموضعها»، نشرته مجلة «ليكونوميست ماغريبان» التونسية، أن تونس تتجه، على غرار العديد، نحو عالم متعدد الأقطاب، حيث بدأت دول حليفة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، منذ بعض الوقت، إعادة تعديل سياساتها الخارجية في هذا الاتجاه، من خلال التقرب من الصين وروسيا.

ورأى أن على تونس أن تعيد التفاوض بشأن خياراتها حتى مع حلفائها التاريخيين، لأن مصلحتها الوطنية تجبرها على ذلك، خاصة أنها «تحتل موقعا جغرافيا استراتيجيا في قلب البحر الأبيض المتوسط كبوابة لأوروبا وافريقيا».

وترتبط تونس بعلاقات تجارية مع الصين تعود لعام 1958، لكنها تطورت بعد إنشاء اللجنة الصينية التونسية المشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي عام 1983، واكتسبت زخما جديدا في السنوات الأخيرة، بعد أن أدرجت بكين تونس في «مبادرة الحزام والطريق»، التي وقعت الحكومتان مذكرة تفاهم بشأنها عام 2018، وإضافة إلى أن الصين تعد ثالث أكبر مورد للسلع الاستهلاكية لتونس منذ عام 2021، افتتحت في أبريل 2022 أكاديمية دبلوماسية جديدة في تونس.

وفي عام 2016، تولت بكين بناء مستشفى جامعي في صفاقس، واستكملته في عام 2020، فضلا عن تقارير عن مشاركتها في صفقات تطوير موانئ المياه العميقة في بنزرت والنفيضة وجرجيس، مع تحويل هذه الأخيرة إلى منطقة تجارة حرة على الحدود الليبية.

وتمثل شركة هواوي الصينية للهواتف المحمولة حوالي 15% من السوق التونسي للهواتف الذكية، بينما شهدت تونس تزايدا سريعا في عدد زوارها الصينيين، بعد أن بدأت البلاد في منحهم الدخول بدون تأشيرة عام 2017، بنسبة تصل إلى 10% على أساس سنوي وفقا لبعض التقارير.