هجرة عكسية واسعة من روسيا
يتذكر الكثيرون الزعيم السوفياتي السابق فلاديمير لينين بالعبارة الشهيرة: «لقد صوّتوا بأقدامهم». كانت هذه العبارة تشير إلى الجنود الذين تركوا جبهات القتال في عهد القيصر بعد اندلاع الثورة الروسية في عام 1917، لكنها تنطبق اليوم على مليون رجل روسي قرروا الهرب من بلدهم منذ أواخر شهر سبتمبر الماضي.
من شوارع إسطنبول إلى محطات القطارات في طشقند، شهدت جميع المساحات الممتدة بين البوسفور والحدود الصينية تدفقاً واسعاً للروس في سن القتال، نيكولاي رجل ثلاثيني من سكان موسكو، وقد هرب إلى أوزبكستان في أواخر شهر سبتمبر، ولا يريد الإفصاح عن اسمه الكامل، هو يقول: «تلقى عمّي البالغ من العمر 49 عاماً بلاغاً للانضمام إلى الجيش في الأسبوع الماضي، هو بقي في روسيا، لكنه سارع إلى الاختباء».
في أنحاء المساحات السوفياتية السابقة، بدأ الروس يعودون جماعياً إلى البلدان التي كانوا يغادرونها طوال ثلاثين سنة، بدأت هجرة عكسية تاريخية تتّضح اليوم، إذ يهرب مئات آلاف الرجال من عمق الإمبراطورية الروسية السابقة إلى دول الجوار.
يقول نيكولاي: «تذكر وسائل الإعلام الرسمية أن مليون روسي هربوا من البلد، لكنّ العدد الحقيقي هو ضعف ذلك الرقم على الأقل، هرب نصف من أعرفهم أنا شخصياً، فعند إعلان التعبئة، كانت ردود الناس مختلفة جداً، وشعر البعض بذعر تام وتوجّه إلى الحدود من دون أخذ أي طعام للطريق، وجمع البعض الآخر جميع أغراضه عشوائياً وهرب قبل احتدام الوضع، فكان آخرون أكثر اتزاناً، وقيّموا الوضع وانتظروا يوماً أو يومَين لتحديد وجهتهم وطريقة وصولهم إليها».
الوضع في جميع أنحاء روسيا يوحي أن 30 عاماً من العولمة ذهبت أدراج الرياح
لا يتجه أصحاب الموارد الضئيلة وحدهم إلى آسيا الوسطى، فقد كان بيوتر مثلاً من سكان موسكو، وقد هرب إلى طشقند للعيش مع عائلة زوجته. كان يلعب الغولف في جامعة بوسطن، ويتكلم اللغة الإنكليزية بلكنة أميركية متقنة، وعمل في «كوكا كولا» في آخر خمس سنوات إلى أن انسحبت الشركة من روسيا، لكنه قرر الهرب أيضاً.
تحمل هذه الهجرة الجماعية مفارقة كبرى، ففي المقام الأول، يُفترض ألا تتجه هجرة الأدمغة من الوسط إلى الأطراف، علماً أن هذه الموجة تبدو غير مسيّسة ظاهرياً مقارنةً بموجات الهجرة الأخرى، وفي الحالات العادية، يهاجر الشبان الأذكياء والطموحون من ألماتي إلى موسكو لا العكس، فلا يُعتبر تهافت أفضل فئة من الروس إلى سمرقند مجرّد إهانة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل إنه يشير أيضاً إلى نزعة تاريخية عكسية لم تحصل منذ عام 1991، فقد حصلت موجة مشابهة من هجرة الأدمغة في التاريخ الحديث، حين هرب المفكرون في أوروبا الوسطى من عواصم مثل فيينا وبرلين وتوجهوا إلى الجامعات الأميركية في أماكن مثل إيثاكا، ونيويورك، وشيكاغو، خلال الثلاثينيات، وتدمّر البعض مثل الروائي ستيفان زويغ الذي قرر الانتحار في بيتروبوليس، البرازيل، وغيّر آخرون مسار الثقافة الغربية، منهم فلاسفة مثل هانا أريندت وهربرت ماركوسي.
سارعت الصحف والمنظمات البحثية إلى تسليط الضوء على تراجع النفوذ الروسي في آسيا الوسطى بعد الحقبة السوفياتية منذ بداية عام 2022، لكنها تغفل بذلك عن نقطة أساسية، إذ تتمحور معظم العلاقات البشرية حول اللغة والمال، ويحمل الهاربون من الخدمة العسكرية هذين العاملَين بوفرة، وعلى عكس ما حصل في بداية العشرينيات، حين مرّ الروس البيض الهاربون من الثورة بإسطنبول وهم في طريقهم إلى باريس ونيويورك وكاليفورنيا، لم تعد أوروبا والأميركتان من الخيارات الواردة اليوم. قد يستقر الروس الآن في ألماتي وطشقند لفترة تفوق مدة استقرار الثوري الروسي ليون تروتسكي في تركيا أو حتى المكسيك.
يقول نيكولاي: «الوضع مضحك. في السنوات القليلة الماضية، كنتُ أحلم بمغادرة موسكو والسفر إلى مكان ما، كنتُ أفكّر مثلاً بإيطاليا أو اليونان ولم أفكر يوماً بأوزبكستان، لكنّ هذا الخيار ليس سيئاً جداً، أحياناً، تجبرنا الحياة على القيام برحلة صغيرة».
من بين الأشخاص العشرة برفقة نيكولاي، غادر خمسة روسيا في الشهر الماضي وحده، يتوزع معظم أصدقائه بين تايلند، وكازاخستان، وجورجيا، والإمارات العربية المتحدة، وتعليقاً على الحرب، يقول نيكولاي: «جميع من أعرفهم تقريباً يعارض هذا الجنون، الأوكرانيون إخوتنا»، قد لا تكون هذه المشاعر متبادلة، لكنه عبّر عن موقفه بحسن نيّة.
في جميع أنحاء روسيا، يوحي الوضع بأن ثلاثين سنة من العولمة ذهبت أدراج الرياح، ويضيف نيكولاي: «لا يمكننا استعمال بطاقاتنا في أي مكان، فقد أصبح البلد كله معزولاً، لقد عدنا إلى الحقبة السوفياتية بين ليلة وضحاها»، ويصعب أن ينكر المتبقون في روسيا هذا الواقع، فقد بدأ فصل جديد وغريب في حياة من اختاروا الرحيل لأنهم يتقنون اللغة الإنكليزية ويعملون عبر شبكة الإنترنت.
عملياً، يقيم هؤلاء في مساحة سوفياتية سابقة ومثيرة للفضول، فهم يتكلمون اللغة الروسية، لكنهم يأكلون وجبات «كي أف سي» في قيرغيزستان، ويتواصلون مع أحبابهم عبر «إنستغرام»، ويستعملون تطبيق «تلغرام» للتكلم مع المنفيين الآخرين وإيجاد أفضل سبّاك في البلد. يبدو هذا العالم ذو الطابع الأميركي أكثر غنى وحرية لأصحاب المهارات أو المتعلّمين، وفيما يتعلق بهذا الجيل الضائع من الروس، لم ينتهِ عصر العولمة بعد، بل إنه أصبح مبتوراً بكل بساطة، فهم يمثّلون أطرافه المقطوعة ويحاولون المضي قدماً في طشقند، فقد لا تكون ظروفهم مشابهة لما توقّعوه في شهر يناير الماضي، لكنها تبقى أفضل من الموت في أحد خنادق «دونيتسك».
الروس الآن قد يستقرون في ألماتي وطشقند فترة تفوق مدة استقرار الثوري الروسي ليون تروتسكي في تركيا
على المستوى الاقتصادي، يواجه هؤلاء وضعاً مبهماً، فهم يكسبون المال بعملة الروبية عبر الإنترنت، لكنهم يدفعون الإيجار بالسوم الأوزبكي، أو اللاري الجورجي، أو الليرة التركية، فهم يؤثرون إذاً على مستوى التضخم مباشرةً، ومنذ شهر فبراير أدى تدفق الروس إلى ارتفاع أسعار المنازل بدرجة كبيرة في أنحاء تركيا، من إسطنبول إلى كل بلدة كبرى على البحر الأبيض المتوسط، وفي أوزبكستان، زادت الحجوزات بدرجة قياسية منذ شهر سبتمبر، إنه منجم ذهب جديد برأي أنصار الذي يدير نُزلاً قليل الكلفة في سمرقند.
من الناحية الإيجابية، بدأ توافد العاملين الروس عبر الإنترنت يطرح خيارات ثقافية جديدة، ففي إسطنبول، أصبح شخصان روسيان من أشهر الكوميديين الناطقين باللغة الإنكليزية، وهما يقدمان عروضاً ناجحة أمام حشود من الشباب الأتراك، وعلى بُعد أكثر من 3 آلاف ميل في «بيشكيك»، تعجّ مساحات العمل المشتركة وقاعات الحفلات الموسيقية الكلاسيكية بالروس، وفي سمرقند، عادت أشهر المقاهي الحديثة إلى استعمال قوائم الطعام بالأحرف السيريلية، وبما أن بقايا وسائل الإعلام الروسية المستقلة تستقر راهناً في لاتفيا، فقد بدأت العاصمة ريغا تسترجع عصرها الذهبي كمدينة عالمية.
لكن لا يشعر الجميع بالقدر نفسه من التفاؤل، فيقول دبلوماسي أميركي رفض الإفصاح عن هويته: «كان يُفترض أن يبقوا في بلدهم ويحاربوا النظام هناك، ولو أنهم قاوموا بوتين بدل الهرب، لكانت هذه الحرب ستنتهي الآن». ويدلي القوميون الأتراك بتعليقات مشابهة عن السوريين، فيقول البعض: «لو كانوا رجالاً حقيقيين، لبقوا في بلدهم وحاربوا في سبيل وطنهم».
تكمن أهمية هجرة الروس في هذا المجال بالذات، إذ تأتي هذه الموجة لتعقّد المفاهيم التي نحملها عن الفريق الذي يستحق الموت والقضية التي يموت الناس من أجلها، ويضيف الدبلوماسي الأميركي: «ثمة 200 ألف ناطق باللغة الروسية في برلين. لماذا لا نشاهدهم وهم يحتجون في الشوارع يوماً»؟ بعد مرور قرن على الاضطرابات التي أحدثها مناصرو ستالين وتروتسكي في شوارع العاصمة الألمانية، قد يحبّذ الألمان اليوم هدوء جيرانهم الروس. قد لا يتوحّد العاملون عبر الإنترنت حول العالم، لكنهم لا يتقاتلون حتى الموت على الأقل.
يتعلق أهم سؤال عملي في هذه الظروف بطريقة تأثير هؤلاء الروس على المشهد السياسي في آسيا الوسطى، فمن جهة، تدين عواصم مثل أستانا في كازاخستان بصمودها للكرملين الذي ساعدها في إخماد جزء من أكبر الاحتجاجات في تاريخ البلد في يناير، ومن جهة أخرى، من يستطيع رفض وصول أعداد هائلة من الروس المنتمين إلى الطبقة الوسطى، مع كل ما يحملونه من ثقافة ومعارف وأموال نقدية؟ من الغرابة أن يرسل العمال اليدويون في آسيا الوسطى تحويلات مالية من روسيا، فيما يتنافس موظفو الإنترنت الروس مع عائلات هؤلاء العمال في سمرقند وبيشكيك على المنازل والطعام ووسائل النقل.
تبدو دول آسيا الوسطى متساهلة مع الروس حتى الآن، إذ لا تنطبق أي ضرائب أو رقابة أو تعبئة على هذه الفئة المبهمة الجديدة من الناس.
ربما أصبح الروس المقيمون على الطرف الآخر من المساحات السوفياتية السابقة تحت رحمة قوى أكبر حجماً، لكن تتعدد الخيارات المتاحة أمامهم، ويقول نيكولاي: «سأعود إلى موسكو على الأرجح خلال بضعة أسابيع لأن التجنيد الإجباري توقّف في الوقت الراهن، وإذا وجدتُ الجيش يطرق على بابي، سأهرع نحو الحدود مجدداً»، كان لينين سيفتخر بهذه النماذج!
* إيفان فايفر