مهاتير محمد هو وجه حزب الملايو المحافِظ «بيجوانغ» الذي أسسه عام 2020، فحين كان يخاطب الحشود، في 18 نوفمبر، عشية الانتخابات الماليزية العامة الخامسة عشرة، تصاعدت الهتافات التي تدعو له بحياة مديدة، لقد كانت حياته مديدة فعلاً.
وُلِد مهاتير عام 1925، ونشأ في بلدة «ألور ستار»، في ولاية «قدح» الشمالية، وكان والده مُدرّساً ووالدته ربّة منزل، وكان دايم زين الدين يقيم على مسافة قريبة من منزله، وهو الرجل الذي سيصبح لاحقاً وزير المال في حكومته وأقرب مستشار له.
شَهِد مهاتير على مختلف المراحل في تاريخ ماليزيا، بدءاً من الاحتلال الياباني عام 1942، مروراً باستقلال البلد عن بريطانيا العظمى عام 1957، وصولاً إلى انفصال سنغافورة واتحاد مالايا عام 1965، فقد شارك هذا الرجل في رسم مستقبل بلده السياسي، فتولى مناصب متنوعة في الحكومات على مر 29 عاماً (وزير تعليم، نائب رئيس الحكومة، وزير التجارة والصناعة، وزير الداخلية والدفاع والمال)، ثم أصبح رئيس الوزراء طوال 22 سنة، بين العامين 1981 و2003، وفي المرحلة اللاحقة، توّج هذه المسيرة الحافلة بعودته إلى رئاسة الحكومة في عام 2018، وهو منصب بقي فيه حتى انهيار حكومته عام 2020.
أمضى مهاتير معظم حياته السياسية كعضو في «المنظمة الوطنية الملايوية المتحدة» التي انضم إليها عام 1946، إنه الحزب الذي حَكَم ماليزيا منذ استقلالها عام 1957 حتى عام 2018، لكن استقال منه مهاتير عام 2015، احتجاجاً على زعيم الحزب حينها، رئيس الوزراء نجيب رزاق.
في ديسمبر 2016، تقرّب مهاتير من زعيم حركة «ريفورماسي» الديموقراطية، أنور إبراهيم، لتشكيل تحالف بينهما، فكان أنور قد تحوّل من حليف مهاتير إلى خصمه في مرحلة سابقة، ولطالما أدرك استراتيجيات السلطة التي يستعملها مهاتير، وأصبح أنور نائب مهاتير سريعاً عام 1993، لكنه عاد وطُرِد من حكومته رغم عبقريته السياسية بسبب اختلاف الآراء بين الرجلين بشأن طريقة التعامل مع الأزمة الاقتصادية عام 1998 وزيادة شعبية أنور.
رداً على حُكم مهاتير، قاد أنور حركة «ريفورماسي» ثم أصبح زعيم المعارضة في وجه السلطة، لكنه واجه بعد فترة قصيرة تُهَماً بالفساد والمثلية عام 1999 بسبب مواقفه الجريئة، ثم حُكِم عليه بالسجن 6 سنوات.
خرج أنور من السجن عام 2004، ثم اعتُقِل مجدداً في عهد حكومة نجيب عام 2015، لكنه وافق عام 2016 على تسليم قيادة حركته إلى مهاتير، ولو مؤقتاً، لإسقاط حزب «المنظمة الوطنية الملايوية المتحدة»، وفي يناير 2018، قبل بضعة أشهر على الانتخابات العامة الرابعة عشرة، أصبح مهاتير مرشّح تحالف «باكاتان هارابان» لرئاسة الحكومة: إنها حركة المعارضة التي كان يقمعها سابقاً، لكنه اتفق معها هذه المرة لتحقيق هدف مشترك: تدمير حزب «المنظمة الوطنية الملايوية المتحدة» الذي شارك سابقاً في تأسيسه.
لكن شهر العسل كان قصيراً جداً في زواج المصلحة السياسي بين أنور ومهاتير، وتماشياً مع الوعود المتفق عليها، خرج أنور من السجن خلال الأسبوع الذي شَهِد انتصاراً تاريخياً لتحالف «باكاتان هارابان» في الانتخابات، وفي مايو 2018 سعى أنور إلى السيطرة على مقاليد الحُكم منذ مرحلة مبكرة، لكن تمسّك بها مهاتير لفترة أطول من المتوقع، وأدى الخلاف بين الزعيمَين إلى زعزعة استقرار حكومة «باكاتان هارابان» الائتلافية، ثم استقال مهاتير في نهاية المطاف، وحين انهارت حكومته في يناير 2020، طُرِد من حزبه «بيرساتو» أيضاً، وكانت استقالته كفيلة بإعادة تحالف «باكاتان هارابان» إلى صفوف المعارضة، ثم عاد حزب «المنظمة الوطنية الملايوية المتحدة»، الذي كان الخاسر الأكبر عام 2018، إلى السلطة بعد التحالف مع قادة «بيرساتو» الجدد، وبعد مرور أربع سنوات وتشكيل 4 حكومات، عاد جميع اللاعبين إذاً إلى مواقعهم الأصلية في هذه اللعبة السياسية المستوحاة من قصص شكسبير.
عندما عاد مهاتير إلى جزيرة «لانكاوي» مؤخراً لإلقاء خطاب هناك، بدا وكأن التاريخ توقف في آخر 4 سنوات، فكان خطابه مشابهاً جداً للتصريحات التي أدلى بها قبل يوم من عودته التاريخية عام 2018، فهاجم «المنظمة الوطنية الملايوية المتحدة» وتطرّق إلى الفضيحة المالية التي تورط فيها نجيب، لكننا أصبحنا اليوم عام 2022، ويقبع نجيب في السجن الآن بسبب دوره في تلك الفضيحة، ولم يعد اسمه مؤثراً في هذه الحملة الانتخابية، كما حصد أنور بدوره حصته من الانتقادات، فطلب مهاتير من مناصريه أن يرفضوا «الكليبتوقراطية»، وأكد في الوقت نفسه رفضه القاطع لحقوق المثليين، وكان موقفه الأخير هجوماً مباشراً على أنور إبراهيم الذي تشوّهت سمعته سابقاً بسبب تُهَم مرتبطة بالمثلية، لكن الملك عاد وسامحه عليها، فمن وجهة نظر مهاتير، يُمهّد التصويت لمصلحة تحالف «باكاتان هارابان» لتشريع زواج المثليين.
قد يعتبر بعضهم هذا الخطاب بالياً وغير مؤثّر بعد ظهور مليون ونصف المليون ناخب جديد بين عمر الثامنة عشرة والعشرين، لكن أثبتت نتائج الانتخابات في اليوم التالي أن الواقع مختلف، إذ يبدو الناخبون الشباب في ماليزيا محافظين بطبيعتهم، ومع ذلك، لم تتحوّل آمالهم وأصواتهم إلى انتصار لمصلحة حزب «بيجوانغ» ومهاتير، بل صبّ هذا الوضع في مصلحة الحزب الإسلامي الماليزي الذي حصد 49 مقعداً في البرلمان، وهو أكبر عدد يفوز به في تاريخه، وفي غضون ذلك، انهار حزب «بيجوانغ» وتحالف «جيراكان تانيه» الذي كان جزءاً منه بالكامل: لم يخسر جميع المرشحين (عددهم 121) في الانتخابات فحسب، بما في ذلك مهاتير وابنه مخرز، بل إنهم فقدوا أيضاً رصيدهم الانتخابي.
يوضح أخرامسيا سانوزي، رئيس قسم الأبحاث في حزب «بيجوانغ»: «كنا نعرف منذ البداية أن المعركة ستكون صعبة؛ إذ كان احتمال الخسارة وارداً، لكن لم يتوقع أحد أن تكون الخسارة سيئة لهذه الدرجة، كنا نظن أن معظم أصوات الناخبين ستصبّ في مصلحة مرشّح «المنظمة الوطنية الملايوية المتحدة»، لا الحزب الإسلامي الماليزي».
لكن ما الذي يدفع مهاتير إلى المجازفة بمقعده وتحمّل الخسارة بدل الاكتفاء بالتقاعد؟ رداً على هذا السؤال، يقول مهاتير: «أنا أحب بلدي ومن واجبي أن أمنع تدميره... الربح والخسارة جزء من السياسة، وأنا مستعد لهذه المجازفة». في 23 نوفمبر، قبل يوم واحد من أداء أنور اليمين الدستورية كي يصبح رئيس الوزراء العاشر لماليزيا بعد عقود من معارضة السلطة، أصدر مهاتير بياناً يوضح فيه أنه قرر التقاعد والانسحاب من عالم السياسة كي يخصص الوقت لتدوين الأحداث التاريخية، بعدما شارك في صنع تاريخ بلده.
قد يكون مهاتير مثيراً للجدل، لكنه يبقى شخصية أسطورية في سياسة جنوب شرق آسيا ومدافعاً تاريخياً عن تطوير الجنوب العالمي وسيادته، فطوال عقود، كانت مواقفه الصاخبة مسموعة وحصدت الإعجاب والاحترام أو الكراهية حول العالم، وانتقل مهاتير مع الماليزيين من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين، وستبقى مسيرته إلى الأبد متداخلة مع تاريخ بلده، لكنه يقول رغم تاريخه الحافل: «لا أريد أن يجعلني أحد زعيمه، ولا أهتم بالإرث الذي سأتركه ورائي، سأكون ميتاً في مطلق الأحوال».
* صوفي لوميير