شرقنا المحكوم بجهاد أوبنهاين وقومية لورنس
أحداث القرن من الزمن في كتاب التاريخ قد لا يتعدى التفصيل فيها بضع صفحات منه، والأحداث الكبرى كالحربين العالميتين أو كخلق الكيان الصهيوني تستمر تداعياتها عقوداً متتالية، وها هو شرقنا التعيس ما زال يعيش نتائج انهيار آخر امبراطورية حكمت الشرق وأوروبا، والخروج بعدها من نير الانتداب والاستعمار ضعيفاً مربكاً وعاجزاً حتى عن حسن استغلال موارده الطبيعية وطاقاته البشرية.
ولعل من أصعب ما حوربنا فيه هو استخدام مفردات هويتنا ضدنا من خلال تسويقها على أنها آفات اجتماعية وسياسية أو انحرافات دينية تهدد العالم «الديموقراطي» وتحول مجتمعاتنا ودولنا الى مقابر جماعية ومراتع فقر وجوع وجهل! بالطبع لا نعفي أنفسنا من مسؤولية ما وصلنا إليه، فنحن ساعدنا من ضمر لنا سوءاً أو بيّت لنا شرّاً أن يلصق بنا تهماً نحن أبرياء منها في الأصل كالإرهاب الذي عكس صورة مشوهّة عن «الجهاد» الديني المشروع، ونحن من عانى مستسلماً أو مستفيداً من ربط فكرتي «الثورة» و«القومية» بأنظمة دكتاتورية عاثت في البلاد والعباد فساداً، وحولت كل ربيع شعبي الى خريف كئيب ودموي.
نحن الضحية طبعاً، لكننا شركاء في نجاح المكائد التي حيكت لتحقيق أهداف كل من أحسن استغلال انفعالاتنا العاطفية وردات فعلنا الحماسية وعفويتنا الفطرية.
ماكس فون أوبنهاين، مستشرق ألماني جمع بين دهاء السياسة وحنكة الدبلوماسية وعشق المغامرة والشغف بالتاريخ وسبر أغوار المجتمعات والثقافات، استثمر كل ذلك ليحفر اسمه في سجل مكتشفي بعض آثار الشرق والمؤرخين لأبرز ملامح تراثه الثقافي والحضاري، دون أن يخفي ذلك دوره البارز في ترويج استخدام مصطلح «الخلافة» للإشارة الى «الدولة العثمانية» بهدف حشد ملايين المسلمين خلف شرعية «جهاد» السلطنة ضد الجيوش البريطانية والفرنسية التي سيطرت على البلاد العربية أثناء الحرب العالمية الأولى في صراعها مع ألمانيا ومن والاها من دول وشعوب.
فمن أجل محاربة بريطانيا وحلفائها لم يكن صعباً على ماكس فون أوبنهاين تحريك مشاعر الشعوب الإسلامية من خلال نشر مواد دعائية تدعو إلى الجهاد المقدّس ضد الإمبراطورية التي حكمت بلاد المسلمين، وتزويد المندفعين بما يحتاجونه من أموال وسلاح ومواد لوجستية وغذائية. ونتيجة لذلك كرّس الرجل نفسه كشخصية مثيرة للجدل وموضع اختلاف بين من يعتبره بطلاً قومياً ألمانياً لقّب بـ «جاسوس القيصر» ومن يلصق به مسؤولية التحريض على «الإبادة الجماعية لبعض القوميات والإثنيات الخاضعة للسلطنة العثمانية» وإخراج «الفكر الجهادي» من كتب التراث الإسلامي بشكل مغلوط ومسيء لصورة الدين والمتدينين. هذا الواقع لم يكن وليد فكرة ظرفية، بل نتيجة مخطط مدروس جرى إعداده بالتعاون مع المكتب المختص بالشرق في برلين، وتم تنفيذه بكل الأدوات والوسائل المخابراتية المتاحة في وقتها، حتى قيل - والعهدة على القائل - إن الألمان في وقتها أعدوا معسكرات خاصة بالأسرى المسلمين دسّوا فيها «رجال دين» مزعومين بهدف تأجيج المشاعر الدينية والتحفيز الجهادي ضد كل من يعادي السلطنة العثمانية المسلمة!
بالمقابل وصل الإنكليزي توماس إدوارد لورنس الى أعلى الرتب العسكرية في جيش بلاده، دون أن ينفي عنه ذلك إنجازاته في علم الآثار، وبراعته في الكتابة عن الشرق، وبراعة حراكه الدبلوماسي الذي أكسبه لقب «لورنس العرب»، نظراً لدوره البارز– والغامض- في تأليب العرب ضد الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، وذلك طبعاً لمصلحة بريطانيا وحلفائها. الواقع أن صيت «لورنس العرب» ذاع في بلادنا العربية أكثر من أوبنهاين، نتيجة نجاح مساعيه في خدمة انتصار دولته وحلفائها على السلطنة العثمانية، الأمر الذي ساهم فيه ما سمي «الثورة العربية الكبرى» التي انطلقت عام 1916 بقيادة الشريف الحسين بن علي، صديق الكولونيل توماس إدوارد لورنس، الذي لم يفوّت فرصة للإضاءة على سياسات السلطنة العثمانية التي فرضت التجنيد الإجباري على أبناء الشرق، وصادرت الأملاك والأرزاق لدواعي الحرب، وساهمت في الأسباب والتداعيات المرتبطة بمجاعة عام 1915. وهكذا ينسب إلى «لورنس العرب» مساهمته القوية في تأسيس ما سمّي «النهضة العربية» في أواخر القرن التاسع عشر بمواجهة فكرة «القومية التركية»، الأمر الذي أدى الى تصاعد نزعة الاستقلال واندلاع «الثورة العربية الكبرى» كنتيجة لوعد الحكومة البريطانية من خلال مراسلات الحسين/ مكماهون بالاعتراف باستقلال العرب مقابل اشتراكهم في الحرب إلى جانب الحلفاء ضد الجيش التركي.
القاسم المشترك بين كلا الرجلين أن كلاً منهما سلك الطريق نفسه لكن لهدفين متعاكسين، وكانت أدواتهما الرئيسة: الإلمام العميق بثقافة شعوب المنطقة، الاستخدام الدقيق لكل مهارات التقرّب من العامّة والضغط على الخاصّة، ومن ثم الاستغلال المدروس لكل الحماسة والانفعالية والحميّة المتجذرة في وجدان أهل البادية والمجتمعات العربية المختلفة. فمرة كان تحريف المبادئ الدينية هو الأداة، ومرة كانت المشاعر القومية هي الوسيلة، وفي جميع الأحوال ما زالت أجيالنا متآلفة مع فكرة التلقي الى أن يغير الله أمراً في أنفسنا، يحوّلنا من ميدان تجارب ومحطات استغلال الى مصدر إلهام ومنبع إشعاع يضيء على بهاء ديننا ويعيد إلينا شيئاً من أمجاد ماضينا وتراثنا الحضاري.
* كاتب ومستشار قانوني