إِن أوفى الناس ملازمة للشعر هو من أسلم يقينه إِلى عناء هذه الدنيا، وما هو إلا شتات. أما ما يمس الإِنسان من الألم، فلا يشفيه غير وثاقة عهده برحمة الله تعالى.

لا أجد عذراً لمن لا يستعذب الشعر العمودي إِذا كان لا يستطيع لفهمه سبيلاً في عصرنا هذا، لكنها المعاني إذا أدركتها فلن تنضب، وإِن صاحبتها لم تخاصم.

Ad

إن الشعر وجدان حي، وبيان كافٍ، لأن جوهره رحيق الإحساس. أما عادة العجلة، فهي دولاب البشرية الذي لم يسع الإنسان ضبطه.

إنني أكتب الشعر بالعربية إخلاصاً للعهد الذي وسع رسالة الرحمن، كما أنني على علم بأن شعري العمودي المقفى لن يقع استعذاباً لناظر من اعتبر هذا الشعر حبيس القوالب القديمة، وأنه لن يستثير الصبر لمن قيد في دولاب العجلة هذه لفهم معانيه، لكنني أصر على أن أعبر به متفانية كتكلف الدواء، لعل فيه الشفاء للأرواح الإِنسانية التائهة.

نعم، إن الشعر يبقى ديوان العرب، لأنه مفخرتهم اللسانية، وبحر الوجود العربي الذي يؤكد انتسابنا القوي لتراثنا وممارسة وجودنا الحي.

لا أعني بذلك أن فردوس الشعر قابع في العصور الأولى، لكنه التوغل في الماضي، والنظر لمنابع التراث بأعذب نماذجه، والعمل بثبات إلى الأمام للمحافظة على مذاق الحياة الإِنسانية مشفوعة بالصدق النفسي المرتبط بالعقل والقلب والحس معاً، حتى يتسنى للصياغة الشعرية الرفيعة أن تتشكل في زمن هذا اللهاث المتواصل. مع إخلاصي للقوافي.

الشِّعْرُ والشّاعِرُ

بَيني وبينَكَ حُرمَتانِ تَنادَتا

وَجْدي الذي بكَ يرتَوي ووُجودي

إِنْ أُسْدِ مِنْ نُصْحٍ إليكَ فإِنَّهُ

رَيّانُ يقطُرُ من رَحيقِ الجودِ

كَتَفَتُّحِ النّوّارِ فَتَّقَهُ الهَوى

لَولا الهَوى لاحتاجَ للتَّجْديدِ

أودعْتُ في سِرْبِ السُّطورِ قَصائدي

ليُعيدَها للقَلبِ يومَ العيدِ

وعقدْتُ في نبْضِ العُهودِ ضَفائِري

أطواقُها كتمائِمِ المَولودِ

ورويْتُ بالمسطورِ عندَ بَلاغَتي

وَقَسا على غَمْزِ السِّنينَ عَمودي

فمررْتُ في عُسْرِ الزَّمانِ وعزِّهِ

مُختالةً بينَ الظِّباءِ الغيدِ

ومطالعُ الأدَبِ التي تَصِلُ العُلا

أبْكَيْنَني فرثَيْتُ للمَفقودِ

ولبسْتُ في الشِّعر العَنا مُستشْرِقاً

إِنّي وهبْتُ لهُ جميلَ قصيدي

لكنّني أهديتُ صفوَ خواطري

أتُرى الرَّؤومَ تكونُ غيرَ وَلودِ؟

والآنَ مُهِّدَ ليْ إِلى مَضمونِهِ

إِنَّ البعيدَ لديكَ غيرُ بَعيدِ

إِنَّ اللّآَلِئَ بينَ أصْدافِ المُنى

لَمَعَتْ مَدامِعُها على تَرديدي

سَلاماً أَصيلَ الشِّعْرِ

ثَناني حَيائي والوَفاءُ دَعاني

وفيهِ مِنَ الوُدِّ القديمِ مَعاني

أرى اليومَ مثلَ الأمْسِ نظرَةَ عاشِقٍ

على طَيِّ دهرٍ وامتدادِ زَمانِ

أذابَ جلالُ الصَّمتِ فيهِ قصيدة

مُجَنّحَةً فيهِ لحاظُ حِسانِ

وأسدَلَ حتّى كانَ كالظلِّ طائِفاً

فما هيَ إلّا آيةٌ بِبيانِ

سَلا عنْ رفاقِ الأمْسِ لمْ يَذكُروا لهُ

وصائِلَ وعدٍ في الضّميرِ تُعاني

سَلاماً أصيلَ الشِّعرِ عنكَ تَضمُّهُ

على الشّوقِ ما ضمَّتْ يَديهِ يَدانِ

هَوى لكَ يا رمزَ الحنينِ مَآَلها

خوافِقُ في صَدري وحُلْو أَماني

فُؤادٌ تغشّاهُ الضَّبابُ كأنَّهُ

سَرابٌ مضى يسري بغيرِ عَنانِ

تَرى الذّاتَ فيهِ والسُّلوُّ أضالِعٌ

على النّارِ ما مِن رحمةٍ وحَنانِ

ولولا صَدى التَّذكارِ في الدّارِ والجَوى

لكنْتُ على عَرشٍ بغيرِ سِنانِ

فكيفَ وقد ولَّتْ بثنْتَينِ راحَت

كوَرْقِ حَمامٍ أو بديعِ أغاني

إذا طافَتِ الألحانُ بالشِّعرِ حولَها

تذوبُ ديارٌ للنَّوى ومَغاني