الباحثة «شفاء المطيري»... والموسوعة الكويتية للغوص
أقل ما يقال في «الموسوعة الكويتية للغوص والسفر الشراعي»، من بحث وإعداد السيدة «شفاء فالح المهدرس المطيري» أنه كتاب رائع حقاً، وإضافة نوعية في مجال المعاجم والموسوعات الكويتية، وسِفر متميز بين الكتب المعنية بالسفر مهنة الغوص.
الموسوعة جمعت بين جودة المادة العلمية ودقتها، وقيام اثنين من أفضل المتابعين لتفاصيل التراث الكويتي بالمراجعة التاريخية واللغوية للكتاب، وهما أ.صالح خالد المسباح المريخي، وأ.فهد غازي فهد العبدالجليل، وحظي الكتاب بإخراج مشرق وألوان مريحة وطباعة واضحة في القراءة.
الكتاب مستطيل على ورق جيد في 436 صفحة، تشعر منذ الوهلة الأولى أن الباحثة وفريق العمل قد بذلوا قصارى جهدهم في إعداد كتاب مرجعي وعمل موسوعي متقن، يزخر، إلى جانب الكلمات وشرحها، بجداول من كل نوع.
الكتاب قدمه للقراء، مع كتابة المقدمة، وربما في اللحظة القريبة من الوداع، فلكي الكويت الكبير د.صالح محمد العجيري والباحث د.عبدالمحسن عبدالله الجارالله الخرافي، ويقول د. الخرافي: «ولعلنا نحتاج إلى أكثر من نموذج من أمثال باحثتنا الفاضلة شفاء فالح المهدرس من الشباب والشابات الجادين من أهل الكويت، لينقذوا ما يمكن إنقاذه من التراث البحري غير الموثق».
من الجداول التي ذكرنا اهتمام المؤلفة بنشرها في الكتاب جداول أسماء أبرز «أستادية» السفن ومهندسيها وصناعها، نحو 40 استادا، مع صورهم إن توافرت، وكشف بأسماء «الاسكلات» على الشواطئ، و«الاسكلة» رصيف الميناء، تقول المؤلفة: «مأخوذة من الإيطالية Escale»، ويدرج الكتاب أسماء 24 منها في مختلف المناطق، لعل أشهرها «أسكلة قصر السيف»، ومن الجداول كشوف بأسماء مختلف أنواع السفن كالبوم والجالبوت، فهناك أسماء لـ152 من ملاك سفن «البوم»، وكشف بأسماء أكثر من 170 من غاصة اللؤلؤ، وصور الكثيرين منهم- وهي التفاتة قيمة من السيدة الباحثة بهذه الشريحة التي أعطت مجتمعها الكثير، وفي الكتاب كشف تفصيلي بأسماء أشهر نواخذة سفن السفر الشراعية ونواخذة سفن الغوص على اللؤلؤ، وربما كان العدد الإجمالي نحو 1200 نوخذة للنوعين من السفن.
كتاب الباحثة «شفاء فالح المطيري» يقدم ثقافة الكويت البحرية ومتعلقات هذه المهنة التي اعتمدت على السفر والغوص، بكل تفاصيلها وثناياها، الكتاب يشعرك بجهلك الواسع في هذا المجال وحاجتك الماسة إلى قراءة الكتاب من الغلاف إلى الغلاف باهتمام شديد إن كنت تريد فهماً عميقاً لتطورالمجتمع الكويتي ومعاناة الناس وشقائهم في ممارسة المهن البحرية من غوص وسفر، وكلاهما غياب عن المنزل والزوجة والولد لأشهر، دون ضمان مردود مالي بل دون ضمان العودة سالماً، وربما قد تفقد حتى ما تملك من منزل بسيط أو أثاث بائس! وكم هو غير منصف وغير عادل أن يغمر ذلك الجهد والكدح والعطاء رغم الفقر الشديد، ما يبرز اليوم في بعض جوانب الحياة الكويتية من لهو وفساد وتلاعب بالثراء، وكم هو مؤلم أن يصبح الموظف الكويتي في حالات كثيرة بهذه الدرجة من الضعف والاتكالية، وهو الذي انحدر ممن قدموا تلك التضحيات.
كان البحر للكويتيين في الاقتصاد القديم لا يقل في أهميته عن النيل للمصريين أو النهرين لأهل العراق، وإن كان ماء البحر لا يطبخ به ولا يشرب منه، فقد كان، تقول المؤلفة، «مصدر رزق من صيد الأسماك والغوص على اللؤلؤ، ورحلات السفر بالإضافة إلى استغلال مياه البحر في كثير من أغراضهم وحاجاتهم». ومن صور الاستفادة التي تعددها المؤلفة، غسل الملابس، وتحمیم الأغنام صيفاً للتنظيف والتبريد، ورش الطرق أيام الصيف تحت إشراف إدارة البلدية، والاستشفاء بعد عمليات ختان الصغار، وغسل الأواني والسجاد وبعض الملابس، الى جانب إقبال الشباب والصغار على السباحة في البحر، وتذكر المؤلفة اسم «بحر البنات»، الذي لم يسمع به ربما كثير منا، ونقول إن «بحر البنات»، «يمتد من موقع رأس الأرض في السالمية حتى المشعاب، وهو مغاص ساحلي، وقد أطلق عليه هذا الاسم لأن الرجال الذين يفضلون الطرق المريحة للغوص هم كالبنات على عكس الرجال الأبطال المغامرين الذين يبحثون دائماً عن المغاصات العميقة والصعبة». (ص27). ولكنها بهذا كله لم تضف المزيد إلى المعلومات التي توردها موسوعة السعيدان حول «بحر البنات». (جـ1 ص72).
من المألوف أن يجد الواحد منا نفسه غير قادر على متابعة ما يقال أو فهم بعض المصطلحات والكلمات، عندما يجلس إلى أهل البحر، بخاصة المحترفون وكبار السن منهم، فالكثير من تلك الكلمات غير متداولة في الحياة العامة، أو تستخدم في معان أخرى، فمثلاً ما «البدلة»؟ إنها ليست ما يلبسه الرجل من ملابس! بل هي، كما تقول الموسوعة: «من أنواع اللؤلؤ، وتعد من أرداً أنواع اللؤلؤ، وهي لؤلوة غير كاملة الاستدارة وتوجد فيها نتوءات». (28).
وما «الباجه»؟ إنها ليست الأكلة المعروفة، بل هي «خشب يتم استيراده من الهند بهدف بناء السفن، ويعد الباجة من أرخص أنواع الأخشاب ويتميز بلونه الأسود وبصلابته». (ص 20). وهناك الكثير والكثير من الكلمات والتعبيرات التي تعني أشياء لا تعرفها أبداً.
ومن الكلمات التي لم يهتم بها كثيراً الباحث «حمد السعيدان»، ولم يشر إليها الاستاذ أيوب حسين، وشرحها باختصار الباحث خالد الرشيد (الوافي ص164) كلمة «جام»، وتقول موسوعة «شفاء فالح» في شرح كلمة جامة بأنها: «كلمة جامة تركية الأصل مشتق اسمها من الجام ومعناها الزجاج، وهي طريقة من طرق الغوص استخدمها أهل بلدة الجبيل أولاً في مدينة الأحساء، وأول من أدخلها إلى الكويت هو النوخذة خليفة بن حسين بورسلي بعد أن عمل على تطويرها، بحيث جعلها من الخشب وكبيرة.
والجامة عبارة عن صندوق خشبي صغير، وغالباً ما تكون الجامة مستطيلة الشكل ويتم طلاؤها باللون الأزرق، ويصنعون على الزجاجة مادة تمنع تغلغل ماء البحر إلى داخلها حتى يشاهد الغواص قاع البحر بوضوح، يأخذ الغواص هذه الجامة حيث ينزل بها في البحر، ويسبح بعيداً عن السفينة وهو ممسك بها حتى تساعده على السباحة لمسافات طويلة، لكن الجامة تتعب الغواص وذلك لنظره الطويل والمستمر في قعرها إلى البحر بحثاً عن المحار، وتكون المغاصات التي يتم استعمال الجامة بها غير عميقة». (الموسوعة الكويتية للغوص والسفر الشراعي، ص 73).
وتكرس الباحثة «شفاء فالح» أربع صفحات للسفينة الشراعية المهيبة المسماة «إبْغَلَة»، وهي سفينة أسفار بعيدة وعابرة محيطات مزخرفة الظهر كما نرى السفن في بعض الأفلام التاريخية، وتقول عن «البغلة»، بتسكين الباء وفتح الغين، بأنها «سفينة شراعية قديمة كانت تصنع في الكويت، ولا يعرف تاريخ ظهور هذا النوع من السفن، وقد عرف أهل الكويت هذا النوع من السفن من خلال زياراتهم للموانئ العديدة (مسقط، كاليكوت بالهند، وزنجبار بإفريقيا).
وتقول الموسوعة مضيفة: «أخذ العرب فكرة بناء الـسفن من البرتغاليين حيث أعجبتهم، وذلك لقيامها بالرحلات الصعبة والطويلة، وهي أكثر ثباتاً لاستغلالها بوصفها قاعدة للمدافع أيضا»، وتقول الموسوعة عن وجود هذه السفينة في الكويت، وتنقل مما تقوله الموسوعة عن زوجة المقيم البريطاني ديكسون في وصف سفينة البغلة المسماة «البدري»، والتي بقيت صامدة حتى منتصف أربعينيات القرن العشرين، تقول زوجة «ديكسون»: «يجري اليوم تجهيز بغلة نوخذة السفر الشراعي عبدالوهاب القطامي قبل أن تنطلق من النقعة، ومنذ أيام والأيادي تعمل على تجهيزها وتهيئتها للسفر، ومن أجل هذا تجمع حوالي ثلاثين بحاراً خلف منزل التاجر هلال المطيري يخيطون لها الشراع، وأما سفينة البغلة فيتم دهنها بمادة الصل ذي الرائحة الكريهة، وقلفطتها عند موضع اتصالها بالماء، وسوف تطلى (بالشونة) أعشق هذه السفينة وخائفة عليها من أهوال البحار والمحيطات بسبب العواصف لكن الحمد لله بعد مضي عام عادت سفينة البغلة إلى الكويت سالمة».
وتضيف الموسوعة: «ومن الجدير بالذكر تعد عائلة العبدالجليل من أوائل الذين امتلكوا أسطولاً ضخماً من السفن الشراعية من نوع البغلة، حيث يذكر الدكتور «محمد إبراهيم الشيباني عن قاضي الكويت الثاني الشيخ أحمد بن عبدالله العبدالجليل- رحمه الله- عام 1722- 1756م امتلك أكثر من ثلاثين سفينة سفارة عبرت البحار إلى شرقي آسيا وإفريقيا وسفن غوص وشحن للبضائع التي مكنتهم من فتح مكاتب تجارية في مدن عديدة مثل بومبي وزنجبار وعدن والبصرة وغيرها واشتهر التاجر سليمان العبدالجليل بنقل الخيول العربية الأصيلة على هذه النوعية من السفن». (ص33). وفي الموسوعة كشف (ص34) بأسماء 39 من ملاك سفن «البغلة» في مجال التجارة البحرية، ويملك البعض أكثر من سفينة واحدة من المجموعة.
أقدمت مؤلفة الموسوعة الباحثة «شفاء فالح المطيري» على خطوة لغوية جريئة عندما تبنت في كتابها بصراحة حرف «الجيم الفارسية» وهي (چ) أو (Ch) وحرف (گ) (G) وهو الجيم المصرية، أو كما تسميها الباحثة «باب الكاف»، ومن كلمات حرف (چ) (Ch) «چرخ» و«چنعد» اسم سمكة تكتبها الصحافة کنعد أو من كلمات باب الكاف «گرگور»، وهو القفص ذو الأسلاك الحديدية بشكل نصف كروي لاصطياد السمك، وکلمة «گُفال» (قفّال)، وتعني نهاية موسم الغوص، و«گَلاف» (قلاف)، وهو صانع السفن، و«الگُمبار»، من طرق الصيد ليلا على الساحل بحمل المصابيح.
في الموسوعة قصة عجيبة عن أحد مشاهير صناع السفن في الكويت وهو «الاستاد جاسم بن علي بن محمد الصباغة». (1870- 1974)، حيث تقول الموسوعة إنه قرر ذات مرة بناء «بوم» متوسطة الحجم في بيته: «وبدأ في شراء الأخشاب اللازمة للسفينة وساعدته زوجته في بنائها، وكان الجيران يسمعون طرق المسامير ويعجبون من هذا الرجل ومن قوة بأسه، واكتمل بناء السفينة، ظن كثير من الناس أن إخراجها من المنزل وإيصالها إلى البحر سيكون من الأمور العسيرة، فبدأ في هدم جدار منزله الأمامي، وفي تثبيت آلة الدوار في الأرض، وبدأ يدير الدوار والسفينة تتحرك من مكانها ببطء حتى خرجت من المنزل وعلم الشيخ فهد السالم الصباح بالموضوع، وكان في عام 1953م، فحث الأهالي على القيام بفزعة لإيصال السفينة إلى البحر. كان منظراً رائعاً في ذلك الحي، الرجال والأولاد يعملون في الليل وتحت أضواء المصابيح اليدوية على جر السفينة من (سكة المطبة) والاتجاه بها شمالاً عند مسجد العبدالإله القناعي على طول شارع الميدان وحتى نقعة بن خميس وتم إيصال السفينة إلى البحر، وبدأ الاستاد بإعدادها للسفر، واشترى لها الأشرعة اللازمة وقام باختيار مجموعة من الشباب الكويتي في رحلته الأولى إلى البحرين، لكن مجموعة من رجال الكويت خافوا عليه وعلى الشباب الذين سيبحرون معه، فاتصلوا بالشيخ عبدالله السالم الصباح وتوسلوا إليه أن يصدر أمراً يمنع الاستاد جاسم من السفر. سمع الاستاد جاسم بالأمر وقال: إذا كان الشيخ قد أصدر أمراً بمنعي من السفر فلن أسافر إذاً، وظل يأتي إلى سفينته كل يوم ويصلح ما بها من عيوب ويجلس على النيم في مؤخرة السفينة ومن حوله عجلة القيادة، ويبقى ناظراً إلى البحر، وبعد سنوات عديدة مالت السفينة على أحد جانبيها وبدأ الوهن يدب في ألواحها ولم ترحمها أمواج البحر». (الموسوعة الكويتية، ص 11-12)
لا أكاد أصدق أن في تراث الكويت البحري حكاية كهذه تشبه قصص طروادة وفتح القسطنطينية!