حتى لا يتكرر حريق المنقف ولا ينحفر 400 قبر لضحايا المرور!
عندما تكون معالجاتنا وقراراتنا لأمور نرغب فيها ولأهداف نتوخاها مؤسساتية لا فردية شخصية، فإن الأمور المتعلقة بالقضايا موضوع المعالجة والقرار ستكون مستقرة وصلبة ودائمة، وهذا جوهر عملية مأْسَسَة مستهدفاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، بل حتى العقيدية والأخلاقية والثقافية والوضع البديل للمؤسساتية هو القَدَريَّة وتلقي ضرباتها بسياسة ردود الفعل والتصرف الشخصي المؤقت الذي يعقبه بعد مرور الزمن النسيان والخمود. لذلك كما يقول فيلسوف السياسة الفرنسي دوفرجيه بتفرد الإنسان بميزة إيجاد المؤسسات لتنظيم شؤونه بشكل واع وحر في حين الموجودات الحية الأخرى تنظم شؤونها الغريزة، فهي بهذا خاضعة لقدرية حتمية.
ومع وجود التطور في الوسائل والأدوات ووجود الانفتاح على التجارب في المجتمعات البشرية ووجود شركات الخبرة المتعددة في سوق النظم والتنظيم فإننا نستطيع حرق المراحل والتوصل الفوري الى تحقيق مُستهدفاتنا، فالمهم وجود الإرادة والاستعداد.
وقعت وتقع على مقربةٍ منا تجارب دول صعدت للقمة بشكل صاروخي فحققت تغييرات بحساب الشهور في حين نحن نحققه بعشرات السنين وبتكلفة أقل، وتم في هذه الدول صب هذه التطورات في قوالب مؤسسية صلبة مستقرة ولها صفة الديمومة، وطبعت سلوك المجتمع فيها بالتغيير والتطوير العميق، وكأن الناس فيها قد خلقوا بهذا الوعي والالتزام فقد تبرمج بها سلوكهم بشكل طوعي وبكل سلاسة.
تجد ذلك التغيير في شكل مؤسسي منظم تتجاور فيه التعليمات المحددة وآليات الضبط والرقابة والمحاسبة، فقد اتخذت الحكومات في هذه الدول إجراءات معلنة ورسمية ووضعت منذ اللحظة الأولى للتطبيق الأجهزة المسؤولة وأجهزة المحاسبة وتم إعلان ذلك بأبلغ وأبسط الطرق في وسائل الإعلام.
لذلك شهدنا التغييرات المذهلة في الرياض والدوحة ودبي على نحوٍ يفوق حتى خيالنا المتخم بالتجارب المتخلفة، ففي السعودية رغب الملك عبدالله، رحمه الله، في بناء جامعة الأميرة نورة خلال سنتين، فتم تغيير الشركة لأنها لا تستطيع بناءها في هذه المدة، فجاءت شركة أخرى أتمت بناءها في 25 شهراً، وبُنيت على مساحة 8 ملايين متر مربع وجامعة الشدادية بنيت خلال 16 سنة وعلى مساحة 6 ملايين متر مربع! وتتسع جامعة الأميرة نورة لستين ألف طالبة ويوجد فيها ميترو يعمل 24 ساعة، في حين جامعة الشدادية لأربعين ألف طالب وطالبة.
البوليفارد ستي الفخم والضخم في منطقة الرياض رغبت السعودية في الانتهاء منه بعد عشرة أشهر، وأخبرت بشار ابن الممثل عبدالحسين عبدالرضا، رحمه الله، بذلك حيث طلبت منه تجهيز متحف ومطعم درب الزلق، وقد ذهل من هذا الوعد ولكن تم بناؤه في غضون عشرة شهور فعلاً، ولا أحدثك عما فعلته قطر لاستضافة مباريات كأس العالم المحدد بالسنة واليوم، ولا دبي التي فجرت ما يشبه المعجزات في غضون بضع سنوات، وهي تعلن الانتهاء من المشروعات بالتاريخ والساعة كما حصل في الانتهاء من الميترو، نعم إنها استهدافات محددة وغاية في الجدية يتبعها إنجاز محدد.
وفي هذا السياق أريد التركيز على ما رأيته في الرياض من التزام أصحاب المركبات بقواعد المرور، وكيف تم بسرعة مذهلة فرض النظام بكل تفاصيله، وأصبح أصحاب السيارات وكأنهم طبعوا على فهم وتطبيق القانون، وانخفضت حوادث المرور الجسيمة 52%.
الأمور في هذه الدول بطبيعتها وبرسوخ الإرادة والإصرار على استمرارها، ارتفعت وبنيت معها مؤسسات عتيدة وقوانين ونظم طبعت مسلكية المجتمع وطريقة تفكيره، فنشأت قطيعة معرفية وسلوكية مع العهود السابقة، انعدمت معها الشخصانية والفردية.
لذلك لا بد أن نتلبَّس بالعمل المؤسسي، ونمسح المناطق الرمادية، ونرسِّم مستهدفاتنا ورغائبنا وقيمنا، ونصبها في قوالب من القوانين والإجراءات المحددة والمعلنة وفق أرشد التجارب، ولا تحكمنا معالجة الأمور وضربات القدر بردود الأفعال بل برد القدر بالقدر كما قال العلماء الحكماء.
أخيرا هذا هو المطلوب حتى لا يتكرر حريق المنقف ولا ينحفر 400 قبر لضحايا حوادث المرور.