وجهة نظر: ليس نظام تفاهة لكنه زمن تافه
إن نظام التفاهة الذي كتب عنه د.ألان دونو لم يعد نظاماً إنما خرج من النظام ودخل في دائرة الفوضى، فكل شيء في هذا الزمن تافه، بل هو زمن تفاهة بمعنى الكلمة، كيف ذلك؟
كمية التفاهة والتافهين هي الأكبر، لا أحد ينتقد التفاهة وأهلها، ولا أحد يمدح الرقي وأهله، التافه يجهر بتفاهته والراقي يلتزم الصمت لأن بضاعته لا يسومها أحد.في زمن ما قبل التفاهة كنا نرى أعمالاً تشهر أصحابها ولا نرى مشاهير بلا أعمال، د.أحمد الخطيب مثلاً كان نجماً في السياسة، عبدالحسين عبدالرضا كان نجماً في الفن، وسعد الحوطي كان نجماً في الرياضة، عرفنا هؤلاء وغيرهم من المشاهير من خلال نتاجهم وأعمالهم. أما في زمن التفاهة فإننا أمام مشاهير بلا إنجاز ومعروفين بلا عمل، فلو قلت لك: «تعرف فلاناً» لقلت: «نعم»، ولو قلت لك: «ما عمله» لقلت: «لا أعرف لكنه مشهور»، وقبل (كم يوم) اتصل بي صديق مثقف يسبق اسمه حرف (دال)، ومن نقاش طويل قال لي: «كتاباتك جميلة ومع ذلك لا يعرفك إلا القليل من القراء، وفلان أو فلان أو فلان تافهون ويعرف كلاً منهم نصف مليون شخص»، قلت له الذي يعرفني أنت وأمثالك، وإن الواحد منكم بألف مما يعدّ أولئك، ففي زمن التفاهة (واحد) من الراقين بألف تافه، فالمعيار النوعي حلم الكبار، والمعيار الكمي حلم هذه المخلوقات التافهة.
وقبل أيام كنا في (حديث ديوانية) حول ما ترتكبه الدويلة التافهة الصهيونية بحق أهل رفح للضغط على الفلسطينيين من أجل القبول بشروط الهدنة التي يريدون فرضها عليهم، فقلت للحاضرين إن مسألة استسلام (الناس) الراقية لأنظمة التفاهة غير ممكنة، إن ما قدمه هذا الشعب من دماء زاكية لا يسمح بأن يخرجوا عن معيارهم النوعي الراقي إلى معيار كمي تافه، فمن وعده الله بالنصر لا يخضع للمهزوم التافه مقابل وعود بمعايير تافهة.
(وعلى طاري) أهل غزة فمن المهم القول إن وجود الناس الراقية هو ما يتسبب في تعرية زمن التفاهة وأهله، ولولا الرقي لما عرفنا التفاهة، ولعل الفرق بين من يملك وطناً ومن لا يملك في زمن التفاهة أن الأول يبحث عن وطن لم يجده في وطن يملكه والثاني يقاتل من أجل وطن رآه أمام عينيه ويصر على أن يملكه كما يراه لا كما يصوره له زمن التفاهة.
وإن كتابة التاريخ الشائع كانت مهنة تفاهة منذ الأزل، والتاريخ المكتوب بأقلام راقية لا يهتم به أحد، ولذا فإن الأقلام التي تكتب بطولات أهل غزة العظيمة لن تجد من يقرؤها في زمن التفاهة الحالي، فأهل هذا الزمان يصدقون سمعهم ويكذبون أعينهم، وادعاء القيم والمواقف والالتزامات هو المشهور في المعيار الكمي، وأما الأفعال التي تدل على مواقف والتزامات أصحابها فشهرتها تبقى ضمن نطاق المعيار النوعي الذي يبقى انتشاره محدوداً وإن كان الواحد من هؤلاء بألف من أولئك.