لم يكن حادث الحريق المؤسف الذي شهدته منطقة المنقف الأسبوع الماضي وأسفر عن 49 قتيلا وعشرات المصابين، حادثا عرضيا أدى إلى كارثة، بقدر ما كان نتيجة تراكم سنوات طويلة من الإهمال المسكوت عنه رسميا لمتطلبات السكن والأمن، والتغاضي عن المخالفات العمالية والتجاوز عن جرائم تجارة الإقامات والمتاجرة بالعمالة، فضلا عن المعالجات المنحرفة للتركيبة السكانية، التي يغلب عليها النفَس العنصري أكثر من الحلول العادلة.

وبالمناسبة، فإن حريق المنقف ليس الدرس أو «الطّراق» الأول الذي تتلقاه البلاد نتيجة سوء أحوال العمالة الوافدة واستغلالها، بل سبقته أحداث ليست بالهيّنة، كالآثار السلبية التي أفرزها تدهور الأوضاع المعيشية لهذه العمالة خلال فترة جائحة كورونا على النظام الصحي في البلاد، والتي أنتجت بؤر تفشّ متناثرة للفيروس، حيث شكلت العمالة الرخيصة والهامشية ذات السكن المخالف للاشتراطات الأمنية والصحية، وحتى الإنسانية الملائمة، عبئاً فاق قدرة الجهاز الطبي على تطويقها، الى جانب دروس أخرى عديدة على صُعُد أهمية رفع درجة استخدام التكنولوجيا في التعليم مثلا، أو تحسين قدرات الدولة في مجالَي الأمن الغذائي أو الدوائي، أو رفع درجة مرونة المالية العامة في التعاطي مع تقلبات أسعار النفط العالمية، أو حتى اتخاذ إجراءات من شأنها حماية أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة وتنمية قدراتهم في توفير احتياجات السوق المحلي خلال الأزمات... وهذه كلها دروس من أزمة كورونا لم يتم الاستفادة منها، بل إن معظمها زاد من تدهوره على مرأى من الدولة وأجهزتها.

Ad

بل إن أزمة كورونا وما أفرزته من «أجراس» إنذار خطيرة لم تكن الأولى من نوعها، إذ سبقها ما يُعرف بـ «أحداث خيطان» عام 1999، التي تمثّلت في أحداث شغب عنيفة لمدة 3 أيام، شكّلت أول صدمة تجاه وجود بؤر تمركز مكتظة بالعمالة الوافدة بعيدة عن أي ضوابط أمنية أو إنسانية أو صحية يمكن أن تتحول في أي لحظة الى قنبلة موقوتة.

بلا تذكير أو تباكٍ

ولسنا في معرض التذكير بالإخفاقات السابقة أو التباكي على ضياع فرص الإصلاح المتكررة، إنما في أهمية التشدد بمسألة وضع خطوات الإصلاح في طريقها السليم، حيث لا تكون ابتداء مجرّد ردّة فعل تتعامل مع الحادث بصفة وقتية، على اعتبار أن المسألة «حادث أمني»، كما حدث خلال أحداث خيطان أو أزمة كورونا، وهي ردة فعل تعالج - في الغالب - مظاهر الخلل بشكل وقتي وثانوي، ولا تمتد لتشمل أصل العلّة المتمثل في الاختلال الحاد بالتركيبة السكانية وما يصاحبه من إفرازات ترقى إلى درجة الجريمة، كتجارة الإقامات والمتاجرة بالعمالة وتقاذف الدولة مع القطاع الخاص مسؤوليات الرعاية الصحية والتأمين ضد المخاطر وتوفير السكن الملائم، أو حتى أبسط درجات الحقوق العمالية، المتمثلة في ضمان انتظام صرف رواتب العمالة.

طوارئ وسلامة

ومع تأكيد أن معالجة اختلالات التركيبة السكانية ليست مناسبة لطرح الحلول العنصرية أو التي تحمّل الوافدين انحرافات سنوات طويلة من التلاعب والإهمال، بل والممارسات التي ترقى الى درجة الجريمة، فإنّ المعالجة المطلوبة يمكن أن تقسّم الى 3 مراحل زمنية، أولاها على المدى القصير التعامل مع ملف المخالفات التي تنطوي على مخاطر تهدد سلامة وحياة العمالة الوافدة من سكن وصحة، مع مراعاة توفير البدائل المناسبة، ولو مؤقتا، والتي لا تنتج أزمات جانبية على صعيد حياة العمالة الوافدة أو احتياجات السوق والمستهلكين لأعمالهم، بحيث تكون الإجراءات في مجملها وقائية، لئلا تتكرر كارثة حريق المنقف، خصوصا في موسم ارتفاع الحرارة، فضلا عن توفير المرافق التخزينية التي تحولت في بعض «العمارات الاستثمارية» الى مخازن لمواد عالية الخطورة، ومخالفة لأي اشتراطات صحية أو وقائية أو أمنية.

مدى متوسط

أما الثانية على المدى المتوسط، فتتطلب فتح ملفات مخالفات الشركات وتجارة الإقامات ومراجعة احتياجات الوزارات والجمعيات التعاونية ومحطات البنزين والمطار، وغيرها من العمالة الفعلية مقابل تلك المسجلة، مع الأخذ بعين الاعتبار معالجة أو إلغاء نظام الكفيل، والتأكد من فاعلية نظم الحد الأدنى للأجور، وإلغاء القيود على تغيير الوظيفة، وإنشاء مدن العمال ووضع مخالفات العمالة كعامل من ضمن العوامل التي تؤهل الشركات للفوز بمناقصات الدولة.

استدامة وإحلال

وأما المرحلة الثالثة، فهي الأكثر استدامة وتتعلق بتطبيق خطة إحلال للعمالة الوطنية محل الوافدة، لاسيما في القطاع الخاص، خصوصا شركات المقاولات والعقود التي تتعامل مع مناقصات الدولة النفطية والإنشائية والخدمية، وهذه تحتاج الى إعادة العمل بالدور الذي قامت عليه فكرة إنشاء الكليات التطبيقية والمعاهد الفنية لربط احتياجات سوق العمل بعمالة وطنية تقلل من الاعتماد على نظيرتها الوافدة، عبر برامج الإحلال التدريجي للمهن في الشركات والمصانع وغيرهما، كما فعلت دول خليجية، أبرزها السعودية وعمان، في إلزام وتحفيز مؤسسات القطاع الخاص بسياسات التوطين على مدى زمني محدد، حيث إنها تمثّل جزءاً من معالجة ملف التعامل مع 450 ألف فرصة عمل مطلوبة خلال 10 سنوات قادمة، أي أنها تمثّل جانبا آخر من اختلالات الاقتصاد الكويتي على صعيد سوق العمل.

أرقام ودلالات

ومع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك أرقاما يجب فهمها في سياق أي معالجة للاختلالات في التركيبة السكانية التي يغلب عليها الوافدون بـ 68 بالمئة، مقابل المواطنين 32 بالمئة، لكون ربع العمالة الوافدة في الكويت عمالة منزلية، وأن مليونَي وافد في الكويت دون سن 39 عاما، أي بنسبة 60 بالمئة من إجمالي العمالة، في مقابل 44 بالمئة من العمالة الوافدة تحمل الشهادة المتوسطة فما دون، أو 43 بالمئة من العمالة الوافدة عازبة، فإننا أمام مؤشرات ذات تداعيات اجتماعية واقتصادية وثقافية وأمنية تستحق أن تكون معالجتها مستدامة وجادة، وتتخذ بإجراءات وسياسات على مراحل زمنية، ولا تتوقف عند ردة الفعل السريعة التي تختفي بعد أيام أو أسابيع... مع تأكيد أن تطبيق القانون هو بالأصل ممارسة طبيعية وواجبة يجب أن يشعر بها الجميع من دون التركيز على ترديدها في كل مناسبة.

برنامج غائب

ودون الكثير من السرد في الاحتياجات، أو ربما الأمنيات، فإن معالجة «حريق المنقف» هي مسألة إدارة عامة بكل ما تحتويه من رؤى وبرامج وخطط وآليات تنفيذ ومرونة بتقويم السياسات والإجراءات، وهذا بالطبع يحتاج الى برنامج عمل حكومي لم يصدر حتى الآن، كي تكون مواجهة اختلالات التركيبة السكانية وانحرافات أوضاع العمالة الوافدة ضمن سياسة واضحة غير مرتبطة بردّات الفعل أو الإجراءات الوقتية... ودون البرنامج الحكومي الواضح المعالم والإجراءات، فإن النتائج لن تخرج عمّا خرجت به دروس كورونا وأحداث خيطان من نتائج وأوضاع زادت الانحرافات تفاقماً.