في ظرفية أوروبية صعبة داخلياً وخارجياً، حقق اليمين المتطرف نقاطا حاسمة ستجعل من حضوره رقما لا يمكن تجاوزه في البرلمان الأوروبي القادم، ولا يخلو هذا التحول من عواقب على الاتحاد الأوروبي، الذي بات ضعيفا بعد انتخابات التاسع من يونيو، وفي مفارقة سياسية، يتفق أغلب المحللين على أنها سترتد سلبا على وضع القارة العجوز السياسي الاستراتيجي الراهن.
ولعل الحقيقة الوحيدة الماثلة الآن في المشهد الأوروبي هي استحواذ اليمين المتطرف على حوالي ربع البرلمان الأوروبي الذي يضم 720 عضوًا، في ظل محدودية بقية الأطراف السياسية خصوصا اليسار الأوروبي الذي يجد صعوبة في توحيد صفوفه، رغم استعادة بعض شعاراته التوحيدية.
وفي خضم هذه اللحظة الأوروبية السياسية الفارقة، بدأت حالة الشك في مستقبل أوروبا تترسخ تدريجيا، في اتحاد كانت انطلاقته ومساره مرادفين لتحقيق التنمية والعدالة، فلقد أبرزت نتائج الانتخابات الأوروبية أن قاطرتي الاتحاد الأوروبي، أي ألمانيا وفرنسا، قد استهدفتا لتصبح فرنسا الدولة الأكثر تضررا من هذه المتغيرات، رغم تداعي النقابات وأطياف اليسار إلى التوحد والنزول للشوارع لتحريك السواكن ودفع الفرنسيين لتحجيم أقصى اليمين عبر الصندوق.
ولكن رغم ذلك فقد أقحمت فرنسا في مرحلة اضطراب سياسي عميق، مما قد يؤدي إلى وصول حزب التجمع الوطني الممثل لأقصى اليمين إلى رئاسة الحكومة بعد قرار الرئيس ماكرون حل الجمعية الوطنية.
وفي ألمانيا، تعرض ائتلاف الديموقراطيين الاجتماعيين إلى هزة سياسية سببها صعود حزب البديل من أجل ألمانيا ممثل أقصى اليمين، كل هذه التطورات تأتي على النقيض تماما من المشروع الأوروبي، الذي تأسس على قاعدة السلام وتطبيق القانون، وعلى خلفية الليبرالية الاقتصادية المقننة.
تحولات المشهد الأوروبي تأتي في ظل ما يشهده العالم من تطورات متواترة وقريبة أبرزها عودة الحرب إلى القارة العجوز، وفرض توازن قوى جديد على الساحة الدولية، وعودة التوجهات الحمائية اقتصاديا.
ومع تزايد أعداء النموذج الأوروبي المتماسك والمتحد، بدءا من روسيا-بوتين التي تخشى انتشار الديموقراطية، وتواصل حربها في أوكرانيا، وصولا للصين بزعامة شي جين بينغ التي لا تستطيع ترك أسواق الاتحاد الأوروبي حيث تبيع فوائضها الاقتصادية الهائلة.
ومن المؤكد أن موسكو وبكين تسعيان معًا، وعلى أكثر من جبهة، إلى تقزيم القيم التي يستند إليها المشروع الأوروبي، فنحن إزاء منافسة حاسمة لخلق ديناميكيات عالمية جديدة سيتشكل من خلالها المشهد العالمي وأقطابه لاحقا، وفقا لتقارير مراكز الدراسات الاستراتيجية، فهل سيتمكن الاتحاد الأوروبي من تحديد وجهته؟ أم أنه سيبقى رهين صراعات متجددة داخل المعسكر الغربي نفسه، أو مع أقطاب المعسكر الشرقي الجديد؟