كشفت عملية سقوط طائرة الرئيس الإيراني ومقتل ركابها وما لحق ذلك من تحليلات سياسية واستراتيجية وفنية ملأت الفضاء الإعلامي العربي، أننا في الإعلام العربي نفتقر إلى الخبراء في الشأن الإيراني على جميع الصعد، رغم ضرورة أن يكون لدينا خبراء في هذا الشأن، سواء رأينا أن إيران عدو لنا أو منافس أو صديق، فالثابت المؤكد الذي لا مفر منه أنها جار أبدي، وأن كل شيء ممكن أن يتغير إلا الجغرافيا ثابتة.

لم نشاهد أو نسمع أو نقرأ تحليلاً عليه القيمة، فجميع خبرائنا ومحللينا لم يكونوا أهلاً للمهمة، لأنهم جميعاً خضعوا أو أخضعوا أنفسهم للعواطف والرغبات والتمنيات يميناً أو شمالاً دون أن يلتزموا بالشروط الفنية للتحليل الواقعي، كإجادة اللغة الفارسية ومتابعة ما يطرحه الإعلام الايراني للتسويق المحلي، والقدرة على الحصول على المعلومات من مصادر حقيقية وموضوعية، وقبل كل ذلك المهارة في توظيف التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الطارئة في المجتمع الإيراني للوصول إلى توقعات مستقبلية دقيقة مدعومة بالقرائن والشواهد.

Ad

إن ما يجب أن نتوقف عنده المنظومة السياسية الإيرانية وخضوعها التام لوصاية الدستور الإيراني ومؤسسات الدولة التنظيمية ووصاية المرشد ومجلس تشخيص مصلحة النظام، المشرفون على تفعيل النصوص التنظيمية وتحويلها إلى واقع فاعل يخضع له الجميع دون السماح بخيارات أخرى للقفز على هذا الواقع، وهو ما يعني أن تغيير الأشخاص لا يؤدي إلى تغيير السياسات أبداً.

هذه المنظومة منعت الصراعات القائمة على المصالح الشخصية وفرضت المصلحة القومية للدولة كبوصلة تُوجه جميع الساسة، على أنه لا يمكن إنكار الصراع الفكري للسيطرة على القرار بين تيارين أحدهما أصولي والآخر أقل التزاماً بالأصولية، ولكن رغم تبادل التناوب على الحكم بين التيارين في بعض الفترات فإنه لم يطرأ تغيير جوهري في السياسة الخارجية الإيرانية منذ عقود، وحتى حالات الهدوء الشديد أو التوتر الشديد لم تأت بسبب تغير التيار الحاكم إنما بسبب ظروف المنطقة والعالم وطرق التعامل الإيراني معها، حيث تعامل الساسة الإيرانيون مع الظروف الخارجية بعدة طرق مختلفة دون الخروج من دائرة ثقافة الحكم والتزامات مؤسسات القرار نحو الدستور والثقافة الإدارية والإجراءات الإلزامية.

إن ما يتأثر به بعض (خبرائنا) من آراء ودراسات ينشرها معهد كارنيغي للسلام ومؤسسة بلير العالمية وبعض المعاهد والمؤسسات العالمية الأخرى قد أثبتت الأيام والأحداث أنها لم تكن يوماً بدرجة جيدة من الواقعية والوعي، وأن هذه الآراء والدراسات كانت تخاطب العواطف أكثر من مخاطبة العقول، أو تعمل لمصالح دولها أو منظومتها العالمية لا لمصالح دولنا ومنظوماتنا الإقليمية، وأننا كإعلام خليجيي وعربي بحاجة إلى مراكز دراسات ومتخصصين في الشأن الإيراني على درجة كبيرة من القدرات والمهارات والوعي والموضوعية حتى نحصل على تحليلات وتفسيرات تخدم فهمنا للواقع واستشرافنا للمستقبل بطريقة صحيحة لإخراج إعلامنا من أحلام اليقظة التي يعيشها إلى فضاء أكثر وعياً وأكثر رحابة، وأن أولى الخطوات التصحيحية التخلص من خبرائنا الحاليين وتكلفتهم المادية والأخلاقية.

فبعد سنوات من قناعتنا التي بشّر بها سعيد غولكار الخبير الأميركي في الشأن الإيراني وبقية الخبراء الغربيين بأن المجتمع الإيراني يشهد تحولاً كبيراً من التدين إلى العلمانية، وأن ذلك سيؤدي في المستقبل القريب إلى تغييرات جوهرية في منظومة الحكم، وبعد سنوات أيضاً من ترديد خبرائنا للأفكار نفسها، وكما هي دون تدبّر، ها نحن ومن خلال حدثين كبيرين أحدهما قبل (كم عام) والآخر قبل أيام نكتشف أن الشعب الإيراني ما زال متديناً وما زال داعماً للإرثين السياسي والثقافي هناك، وأننا يجب أن نتعامل مع الواقع الحالي كواقع مستقبلي لن يشهد أي تغيير.