بعد كتابه القيم «النادي الأدبي الكويتي ودوره في الإصلاح» ط 2019، أيُهدي الأستاذ الباحث د.عايد عتيق الجريِّد المكتبة الكويتية والعربية كتابه الجديد «المكتبة الأهلية الكويتية 1923 - 1937»، وقد صدر عام 2023.
ولا شك في أن الكتابين إضافة مهمة للتاريخ الثقافي الكويتي ومراحل تطوير مؤسساتها، حيث ركز الباحث الفاضل الأضواء بمعلومات جديدة على الشخصيات التي أسست منطلق النشاط الثقافي في البلاد، وتحدث عن المؤسسات الأولى التي أرست فيما بعد المكتبات والمدارس والحياة الصحافية والتأليف وغيرها من المؤسسات والنشاطات.
بذل د.عايد الجريِّد في هذا الكتاب (250 صفحة) جهدا علميا نراه واضحا في كل فصول الكتاب الثلاثة، وكذلك في الملحق الذي عرض فيه مجموعة مهمة من الوثائق الأدبية، وكذلك الكتب التي أهديت للمكتبة الأهلية التي يؤرخ لها من مختلف الشخصيات الثقافية في تلك المرحلة، كالأديب سلطان إبراهيم الكليب والشيخ حافظ وهبة والنوخذة عيسى القطامي وغيرهم.
ومن بين الكتب الكتاب المعروف «دليل المحتار في علم البحار»، ونسخة من الطبعة الأولى 1931 من كتاب المصلح عبدالرحمن الكواكبي، كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، وهو مع كتاب «أم القرى» من أشهر كتب بدايات القرن الماضي.
وأودّ أولا وقبل المضي في عرض كتاب د. عايد الجريِّد عن «المكتبة الأهلية» أن أشير إلى ما لاحظته في كتبه من تركيز على «هويته الدينية» واهتمامه بإبراز «الجانب الإسلامي» في تحيله لكل ظاهرة وكل خطوة، وأرى أن على أي باحث ومؤلف لكتاب عام ألّا يقحم دينه ومذهبه وقوميته وآراءه السياسية فيما يكتب ويبحث، وألا يخاطب القارئ بلغة دينية وأدعية، قد لا يشاركه القارئ فيها، فنحن مثلاً لا نرى إلا نادرا كاتبا أو باحثا من غير المسلمين يحرص على إبراز دينه وإقحامه في مقدمة الكتاب، بل في التحليل والاستنتاج، وربما في النهج على من لا يعجبه المنهج المتبع من قبله، وربما النيل من المسيحيين واليهود وملل أخرى، مستفيدا من فرصة الكتابة وهو ما يترفع عنه أغلب الكتاب لحسن الحظ.
ونحن نجد الغربيين من أوروبيين وأميركيين وغيرهم في مقدمة كتبهم ومناهج بحثهم يتحاشون الحديث عن الدين أو المذهب الذي ينتمون إليه حتى لا يأخذ القارئ عليهم ذلك، وكي يحافظ الكاتب والباحث على حياده المطلق في التحليل والاستنتاج.
لا مجال في هذا المقال للحديث عن مشاكل الكتابة والتحليل في الثقافة العربية والانحيازات الطاغية فيها من العنوان إلى الإهداء إلى المقدمة ومنهج التحليل والمصادر! ولهذا يفرُّ القارئ العربي ما استطاع إلى المؤلفات الأوروبية ومؤلفات المستشرقين ممن يتبعون الأساليب العلمية الحديثة في الكتابة، ويتجنبون التعميم والنقد دون دليل، وبخاصة مراكز الدراسات الحديثة وكتبها.
حاول الباحث في التمهيد للكتاب، أن يلخص مكانة الكتاب في حياة الأمة الإسلامية، كما هو عنوان التمهيد، لكنه اقتصر على الجوانب السارة المشرقة وتجنب مثلا الحديث عن غياب حرية البحث وتدخل القوى السياسية والدينية في الحريات، وفي حرق الكتب حتى في الأندلس مما لا مجال للحديث عنه هنا!
ومن نافلة القول الاستطراد في الإشارة الى القيود الهائلة على المؤلف والباحث من المؤسسات الجامعية في الحكومات والمؤسسات الدينية بل عامة الناس أحيانا!
أحسن الباحث في اقتباسه قول «عبدالحميد الصانع» لابد أن نفرق بين الثقافة والتعليم «فهذه الملاحظة التي أُبديت قبل زمن طويل، ربما قبل قرن، لا تزال صحيحة» أضاف الصانع: «فالثقافة هي قدرة الإنسان على التطور مع الزمن، قدرته على الاستنتاج، على معرفة كل ما يدور به من أحداث، أما المتعلم بدون ثقافة فشأنه شأن الكتاب الموضوع على الرف» (ص78)، بمعنى أنه لا يتغير مهما تغير الزمان.
ومما أبرزه د.الجريِّد بما يستحق عليه الثناء، حجم تخلف التيار المحافظ وشيوخ الجمود بالرغم من التغيرات التي كانت تدخل الكويت والمنطقة في أوائل حكم الشيخ أحمد الجابر الصباح عام 1921، ويقول د.الجريِّد «وجدت فئة من مشايخ الدين لم يكونوا يقبلون بوجود المشاريع الثقافية كالأندية الثقافية، ولم يؤيدوا إدخال العلوم الحديثة للمدارس، كالجغرافيا بالمدرسة المباركية، كما أنهم لم يسمحوا بمطالعة الصحف والمجلات، لذلك واجه (مؤسس المكتبة الأهلية)، مصاعب في التعامل مع هذه الفئة وقيل: إن أحد أفراد فئة المشايخ عندما علم باشتراك آل خالد في مجلة المنار الغراء غضب عليهم، لكون هذه الفئة ترى أن الشرع لا يبيح مطالعة الصحف والمجلات، لأنها تجمع العقائد الزائفة والآراء المبتدعة». (ص79).
وفي تلخيص واف لأفكار هذا التيار يكمل «د.الجريِّد» الحديث قائلا: «وعلى حد قول المؤرخ عبدالعزيز الرشيد المعاصر لهذه الفئة، والذي يتفق معهم: إن منهم من حكم بتكفير الشيخ محمد رشيد رضا واستحلال دمه، كما يقول المؤرخ سيف الشملان: إن بعض رجال الدين لم يكونوا مرتاحين لتأسيس الجمعية الخيرية العربية، التي تضمنت أعمالها أنشطة ثقافية كتأسيس مكتبة فيها، ودعوة رجال الإصلاح العرب للمشاركة في فعالياتها». (ص80).
وأضاف: «وعن الحركة العلمية والفكرية في الكويت آنذاك يقول الشيخ عبدالعزيز الرشيد: «كانت غارقة في بحر من الجمود، ولا أثر للحركة العلمية والفكرية فيها، وكان الشائع بين أهلها مبادئ الفقه واللغة العربية والخط المتوسط والحساب البسيط، وما عدا هذه من العلوم العصرية والمشاريع النافعة والآراء الحية فليس لها أثر بينهم، ولو وجد شيء منها آنذاك لنفروا منه ومن أهله ولرموا متعاطيه بالزندقة والإلحاد». (ص80).
وفي تحليل الباحث لموقف الشعراء من الصراع الثقافي المحتدم يومذاك، يقول «د.عايد» عند أبيات معروفة من قصيدة الشاعر الكويتي «صقر الشبيب» عن تكفير المصلحين ومناصري التغيير، «كلما قام مخلص ينصح الناس» ويقول الباحث «إن الصراع كان شديدا حتى أن الشيخ «عبدالعزيز الرشيد» عندما كان يدرس في «المدرسة العامرية» التي تأسست عام 1919، واجه مقاومة من فئة من مشايخ الدين لما يدرسه من نظريات، فالأرض مسطحة عند الكثيرين من هذه الفئة، والجغرافيا علم لا خير فيه، وكل هذا دفع الشيخ عبدالعزيز الى مراجعة علماء المسلمين بهذا الشأن، حتى أنه كتب رسالة الى الشيخ «محمد رشيد رضا» يعرض له فيها آراء أهل الكويت بشأن كروية الأرض». (ص81).
ويحاول د.عايد أن يخفف الضغط عن رجال الدين، ويقول شارحا موقفهم ودوافعه: «في الحقيقة إن فئة مشايخ الدين المعارضة لإقامة المشاريع الثقافية ولبعض الصحف لا يمكن أن تطلق عليها فئة غير متعلمة بل بالعكس فمنهم من تعلم في عدة دول، كما لا يمكن أن تقول عنها فئة لا تريد الخير لمجتمعها، بل بالعكس كان منهم من يعظ الناس واستفادوا من علمه، إلا أنه من المؤكد أنهم كانوا متخوفين من أن هذه المشاريع تأخذ منحى آخر غير ثقافي، وكذلك كانوا متخوفين مما تحمله الصحف والمجلات كمجلة الهلال لمؤسسها جرجي زيدان من آراء تخالف الشرع». (ص83).
وربما أقنع هذا التحفظ وهذه المخاوف لدى المحافظين بعض الشخصيات الأدبية في الكويت بالحاجة الى إنشاء مكتبة عامة تعزز الانفتاح الثقافي والمرونة الفكرية!
ويقول د.عايد: نتيجة لهذه المؤثرات والعوامل: «رأت جماعة الأدباء الكويتيين أن مدينتهم في حاجة ماسة إلى إيجاد مكان لائق يتردد عليه المفكرون ليتبادلوا فيه آراءهم الأدبية والاجتماعية، وليتبنوا طريقا لهم لتحقيق أهدافهم، فعرضوا في أول الأمر باسم (النادي الأهلي)، ولما كان النادي في هذه الفترة موضع نقد وارتياب اجتمع كل من الأديب سلطان الكليب والأديب عبدالحميد الصانع في منزل الأديب حافظ وهبة بدعوة منه، ومن المرجح أن هذا الاجتماع كان في أواخر عام 1922م». (ص83). يتبع، ، ،