لولا القرار المفاجئ الذي اتخذه إيمانويل ماكرون بحلّ البرلمان الفرنسي، لكانت انتخابات البرلمان الأوروبي قد جاءت مطابقة للتوقعات: نسبة مشاركة منخفضة كالمعتاد، وسياسيون غير معروفين، واستخدام التصويت في الانتخابات للاحتجاج ضد الحكومات الحالية.
ربما تدور العناوين الرئيسة اليوم حول نجاح حزب التجمع الوطني الفرنسي، ولكن، كان أداء اليمين المتطرف مخيباً للآمال في مختلف أنحاء القارة، واحتفظ الوسطيون بالغالبية.
لم تكن هذه الانتخابات لتظل عالقة في الذاكرة لفترة طويلة، إلا أن قرار الرئيس الفرنسي بالرد (على انتصارات اليمين المتطرف) من خلال الذهاب إلى صناديق الاقتراع أحدث صدمة في أنحاء البلاد وبقية دول أوروبا.
وفي الواقع، يُجري الرئيس استفتاء يسأل فيه أبناء الشعب الفرنسي عما إذا كانوا (يرغبون) في العودة مستقبلاً إلى سياسات الكراهية والقومية ومعاداة الأجانب، التي بلغت ذروتها في ثلاثينيات (القرن الماضي).
ومن خلال القيام بذلك، يدعو ماكرون السياسة الفرنسية في الأساس إلى النضوج، وهو يحث السياسيين العقلاء على الاتحاد في مواجهة التهديد الذي يلوح في الأفق من مارين لوبان وحزبها التجمع الوطني.
إن الاختيار أمام الناخبين الفرنسيين صارخ، والأحزاب السياسية في البلاد هي عموماً إما أحزاب ذات قضية واحدة، كـ«الخضر»، أو مثل الاشتراكيين والديغوليين، الذين تناوبوا على الحكومة لما يقرب من 40 عاماً قبل أن يعيد ماكرون رسم معالم المشهد السياسي، وقد انقسمت هذه الأحزاب إلى فصائل مختلفة وأصبحت تعاني الاقتتال الداخلي.
وعند الاستماع إلى مختلف اليساريين واليمينيين وهم يفظّعون ببعضهم بعضاً على موجات الأثير في أعقاب إعلان نتائج الانتخابات الأوروبية، «يخلص المرء إلى أنه» من غير المرجح أن يوحدوا أنفسهم لمنع لوبان من الفوز بالغالبية عندما يذهب الناخبون إلى صناديق الاقتراع.
بيد أن الناخبين الذين يعتقدون أن مثل هذه النتيجة من شأنها أن تبشر بمستقبل مزدهر لفرنسا يحتاجون إلى التفكير مرة أخرى، وسيبقى ماكرون في منصبه بغض النظر عن نتيجة الانتخابات، وكرئيس، لا يمكن تمرير أي قانون من دون موافقته، لكن، نتيجة لقراره بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، قد يُجبر على الحكم مع الصبي المعجزة السياسي غوردان بارديلا البالغ من العمر 28 سنة كرئيس للوزراء.
أما بارديلا، فهو رئيس حزب التجمع الوطني، وأحد تلاميذ لوبان، إنه شاب وسيم ولا يقول أي شيء على الإطلاق باستثناء العموميات الغامضة.
لقد كان عضواً في البرلمان الأوروبي إلا أنه لم يذهب إليه أبداً، ويتوقع الفرنسيون أن يكون ساستهم من المثقفين الذين يتوخون الدقة والقادرين على الإقناع، وقد تم اختيار بارديلا على وجه التحديد لأنه لا يشكل تحدياً لمارين لوبان، التي تأمل الترشح مرة أخرى للرئاسة في عام 2027.
في غضون ذلك، ينقسم اليمين الأوروبي المتطرف الآن حول تمويل الاتحاد الأوروبي وإعانات الناخبين، وبشأن الهجرة، وحول الرؤساء المستقبليين لمؤسسات بروكسل الرئيسة.
وقد دعت لوبان إلى طرد اليمينيين المتطرفين الألمان من المجموعات السياسية على مستوى الاتحاد الأوروبي، كما أنها غاضبة من شقيقتها السياسية، رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني، بسبب سياستها المتمثلة في التخلص من طالبي اللجوء غير الشرعيين الذين يحلون في إيطاليا، بدفعهم عبر الحدود إلى فرنسا.
وهناك أيضاً انقسامات مريرة بشأن الدعم الذي يقدمه الطابور الخامس لبوتين في الاتحاد الأوروبي، بقيادة الزعيمين الهنغاري والسلوفاكي فيكتور أوربان وروبرت فيكو، وستشهد السنوات الثلاث المقبلة انقسام اليمين المتطرف الأوروبي وطغيان الغموض وعدم الاستقرار في تحالفاتهم.
لا يمكن لماكرون أن يترشح مرة أخرى في عام 2027، لذا، هناك متسع من الوقت لمعرفة ما إذا كان التيار الديموقراطي السائد سيجود بزعماء جدد، غير أنه لا يستطيع أن يلوم إلا نفسه، وهو فرض منذ عام 2017، عندما وصل إلى قصر الإليزيه، برنامجاً اقتصادياً ليبرالياً للغاية في فرنسا، مما أدى إلى خلق عدد كبير جداً من الخاسرين الذين شعروا بالتخلف عن الركب.
وستُظهِر السنوات الثلاث المقبلة ما إذا كانت الديماغوجية القديمة التي سادت في ثلاثينيات القرن العشرين ناجحة، أو ما إذا كانت الطبقة السياسية الفرنسية قادرة على تجديد نفسها والتحدث إلى فرنسا كلها ومن أجلها.
* دينيس ماكشين وزير الدولة البريطاني السابق لأوروبا، عاش وعمل في فرنسا.