قال لي وهو الناصح والأكثر نضجاً ومعرفة ودراية بالحياة «يا عزيزتي الحياة لا تتوقف رغم الموت المجاور لها»، وصمت وهو يطيل النظر في الأفق البعيد رغم أننا جالسان في مقهى صغير وبعيد عن الأنظار حتى نستطيع أن نتحدث ببعض الحرية!!! حتى المقاهي ضاقت بالأحاديث إلا ما كان منها سطحياً وتافهاً أو بتصوير أطباق الكعك والسندويتشات المتراكمة على شكل ناطحات السحاب!!!
عاد وكأنه يعود في الكتابة من بعد الفاصلة أو في البرنامج الحواري من بعد الفاصل أو ربما تذكر أن عليه أن يفعل أكثر من هاتين الجملتين ليقنعني أو يقنع نفسه بما قاله والأمر لم يعد مجرد موت عادي بل هو كما روى العبقري ماركيز في «قصة موت معلن»، بل هي إبادة حتى نسمي الأشياء بأسمائها، هو يجلس في المقاهي ليستنشق رائحة القهوة بعد أن منعه الأطباء عنها وهو العاشق لها في مختلف صورها وأشكالها: لاتيه، كابتشينو، سبانش لاتيه، وقبلها القهوة العربية أو التركية أو اليونانية حسب موقعك في الجغرافيا أو في السياسة!!!
عندما طلب منه الطبيب أن يتوقف عن شرب القهوة انغمس في مرحلة من الاكتئاب لأشهر، وأصدقاؤه وتلامذته يرددون سمعنا أن المرء يكتئب في البعد عن حبيب أو عن وطن أو عن مسكن كان له كل حياته، ولم نسمع أبداً عن اكتئاب بسبب الامتناع عن القهوة!! مضت الأشهر كما الأيام الآن سريعة جداً جداً بطيئة عند لحظات الوجع، وعاد هو للأمكنة التي أحبها مكتفياً باستنشاق القهوة بدلاً من شربها وتذوقها، هو الذي قال مرة «إذا استطعت أنا أن أمتنع عن أي قهوة أو حبة قهوة فلم لا يستطيعون هم أن يمتنعوا عن شرب تلك القهوة المغمسة بدم أهلنا في فلسطين»، وأضاف هو المتابع والقارئ والمطلع، بل هي قبل ذلك كانت مغمسة بدم أطفال مزارع البن في إفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث يتقاضى الطفل دولارا في اليوم على جمع حبات القهوة وهم يبيعونها بعشرات الدولارات ويجنون الملايين فيعود الطفل نفسه من ذاك العالم الآخر إلى كوخ أو «عشة»، سمه منزلا ويأكل فضلات طعام ربما.
عاد هو للنصح في محاولة للتخفيف من وجع غزة وكل فلسطين وللبحث عن مبررات لكثير من العرب القريبين جداً من أهلنا في فلسطين إما بالعرق أو بالدين أو حتى بالإنسانية، كيف يقيمون الأفراح الصاخبة ثم يصورونها ويضعونها لتصبح «ترند» على منصات التواصل الاجتماعي؟ كيف يستمرون في تصوير تجمعاتهم في المقاهي متحلقين حول كعكة وأطفال بل كل سكان شمال غزة وكل غزة يموتون من الجوع؟
وفي محاولة أخرى طرح السؤال كعادته «هل تفضلين أن نموت جميعاً من الجوع لنتساوى مع أهلنا في غزة؟»، والإجابة كانت سريعة وبسيطة وسهلة وهو أكثر العارفين بها «لا أتصور أن جوع الكون سيكفي ليخفف الوجع ولكن ألا نخفف من وضع كل تلك الولائم والحفلات ونشرها وكأن الحياة مستمرة في وتيرتها ورتابتها؟».
الإجابة مني كانت أن الفلسطيني هو من علمنا معنى الحياة وحبها فهم يحبون الحياة أيضاً، ولكن هذا لا يعني أن نجاهر بالبذخ والولائم والأفراح، وكأننا نقول لهم إن إبادتكم تخصكم أنتم فيما كل الكون حتى ذاك الفندق البعيد في تلك المدينة الأبعد عن غزة وكل فلسطين رفض أن يستقبل الصهاينة لأن كل شعب ما يسمى إسرائيل هو جندي أو جندية أو جندي احتياط، بمعنى أن كلهم مدانون وكل أياديهم ملطخة بدماء أهلنا في فلسطين... في كل مدن الكون ترتفع الصرخات بل كثيرون ضحوا إما بمستقبلهم الوظيفي أو العلمي أو حتى بنبذب مجتمعهم لهم، إلا نحن الاحتفالات مستمرة على وسائل التواصل والبذخ المفرط وصور المسؤولين المنغمسين في ملذاتهم الخاصة جداً، كل ذلك يملأ وسائل التواصل الاجتماعي وصفحات الصحف اليومية، ربما علينا أن نتعلم فن الحياء أم هو القول «إن لم تستح فافعل ما شئت» كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحياء من الإيمان»، والإيمان في الجنة، فالحياء رافد من روافد التقوى في كل الأديان وهو يحمل الإنسان مسؤولية ألا يصدر عنه أي عمل يعلم أنه مكروه لخالقه.