... ويبخس د. عايد الجريد حق المؤرخ جرجي زيدان ودوره الثقافي، إذ إنه من المؤسف أنه يتعجل في إصدار الأحكام فيقول في الهامش (ص82) «جرجي زيدان شوه التاريخ الإسلامي في كتاباته».
ولا شك أن عطاء باحث ومؤرخ وصحافي ومؤلف كبير بحجم «جرجي زيدان»، بمؤلفاته الثرية وجهده الضخم في استمرارية مجلة «الهلال» لا يمكن أن يصدر عليه أي باحث موضوعي حكما قاسيا غير قابل للاستئناف كهذا، وهل الآراء المخالفة للآراء السائدة في أحداث التاريخ الإسلامي وشخصياته تعد بالضرورة تشويها؟ ألا نمتلك حتى حق الاحتجاج وإعلان الاعتراض؟
لقد تحول الإسلام عبر امتداد القرون من مجرد دين إلى إطار ثقافي واجتماعي واسع لمئات الملايين من سكان الكرة الأرضية بينما لا تزال نظرة أنصاره وبخاصة في المجال الثقافي والتشريعي ضيقة محدودة.
المعروف بالطبع أن المؤرخ «جرجي زيدان» (1861-1914) كأي شخصية ثقافية واسعة العطاء قد تعرض لألوان النقد، لكن عطاءه كبير على كل صعيد، ثم هل للتاريخ الإسلامي حواجز وموانع وذات مصونة كالدين نفسه؟ ونحن نعلم ماذا جرى فيه حكاماً ومحكومين وحوادث وغير ذلك؟ إن كل من يطالع كتب التاريخ الإسلامي والتراث ستكون له حتما نظرة أخرى.
إن إحدى مشاكلنا الثقافية والعربية المعروفة نظراتنا الرومانسية غير الواقعية الى جملة رجال وأحداث هذا التاريخ قبل الإسلام وبعده، بل حتى الحديث، ويتهم الكثير من الإسلاميين «جرجي زيدان» والعديد من المستشرقين بأنهم «أساؤوا فهم التاريخ الإسلامي» أو أنهم «تعمدوا تشويهه»! ولكن هؤلاء الإسلاميين والسائرين على نهجهم لا يلتفتون إلى ما يعانيه العربي والمسلم، والمخاطر التي تهدد حياته ووظيفته وسمعته من اقتلاع واغتيال وإبعاد عن الحياة الفكرية والثقافة والأكاديمية إن «أعاد النظر»، وناقش بموضوعية ما يعتبر من الثوابت التاريخية، حتى إن كان المؤرخ أو الكاتب مسلمين فكيف لو كان مسيحياً كجرجي زيدان أو المستشرقين!
إن الذين يدافعون عن زيدان يعتبرونه واحداً من أكثر الذين عملوا على إحياء وعي العرب بماضيهم بكتاباته التاريخية المباشرة.
ويقول «كرم الحلو» في جريدة «الحياة» متحدثاً عن أعمال «زيدان»: «في كتابه تاريخ التمدن الإسلامي تناول زیدان أحوال العرب منذ الجاهلية الى العصر العباسي من النواحي الإدارية والعلمية والسياسية والاقتصادية واستعرض تاريخ آداب اللغة العربية من شعر ونثر وأدب منذ العصر الجاهلي حتى القرن العشرين، داعياً في كتاباته إلى إصلاح أحوالنا الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن ترقية أخلاقنا لأنها سبب أساس في نهضة الأمة أو سقوطها. وقد شدد دائماً على معرفة الحقيقة وتجريدها من الأوهام، إن في الدين أو في العادات والتقاليد والمعاملات السياسية، ويبرز الحس العروبي عند زيدان إذ يرفض الفكرة القائمة على استبدال العامية بالفصحى ويحض على تأييد اللغة العربية لأنها قوام الأمة العربية». (الحياة، 2/6/2014).
ويقول الباحث «د.محمود علي مكي» عن إمكانات «زيدان» وسعة اطلاعه على الآداب والمصادر الغربية: «كان جرجي زيدان مع تمكنه من تاريخ الإسلام وتبحره في الإحاطة في معرفة تطور الحضارة العربية ومصادر الأدب العربي، واسع الاطلاع على الآداب الأوروبية بفضل إتقانه للإنكليزية والفرنسية والألمانية. وأدى به جمعه بين الثقافتين العربية والغربية إلى ريادة هذا الميدان الجديد من الكتابة الذي لم يسبق إليه، وإنما تبع فيه القواعد التي أرساها في الغرب كتاب الرواية التاريخية». (الهلال، مايو، 2005، ص45).
وعن اهتمامات «جرجي زيدان» وميادين كتاباته يقول الكاتب «حسين أحمد أمين» في بعض مقالاته: «وإن نظرنا الى عدد واحد من مجلة الهلال التي أسسها عام 1892 وظل رئيسا لتحريرها حتى وفاته فجأة عام 1914 عن ثلاثة وخمسين عاما، «وهو عدد فبراير سنة 1913»، وجدناه يحوي مقالات بقلمه عن تاريخ لبنان، وحصار الصليبيين لدمياط، ومقارنة بين ماكيافيلي، وابن خلدون، وصلة التعليم بالنظام الاجتماعي، والشيخوخة وأعراضها، والسمنة وعلاجها، بالإضافة الى وصف لرحلته الى فرنسا وإنكلترا وسويسرا وفصل من روايته (صلاح الدين ومكايد الحشاشين!)». (الوطن الكويتية 25/12/1984).
وقد ترجمت أعمال زيدان التاريخية وغيرها الى العديد من اللغات وبخاصة التركية والفارسية كما كان جرجي زيدان من أقرب أصدقاء الشيخ السلفي صاحب مجلة «المنار»، رجل الدين السوري المقيم بمصر، والذي زار الكويت في إحدى رحلاته «محمد رشيد رضا»، وقد نشرت «المنار الإسلامية» مقالا مطولا في المجلد 17، ص636 بقلم الشيخ رشيد رضا في رثاء الراحل «جرجي زيدان»!
والخلاصة أن لاختلاف الآراء في تقييم «جرجي زيدان» مجالا واسعا، ولكن لنأخذ في الاعتبار كذلك دور الرجل وفضله وما قدم من علم وخدمات عجز عن تقديمها كثيرون.
ونعود ثانية لشيوخ الدين والتزمّت الفكري في تلك المرحلة، فنرى أن مشكلة شيوخ الدين لم تكن فقط استياءهم من محتويات مجلة «الهلال» أو غيرها، بل نفورهم من كل الأفكار الجديدة، بما فيها المجلات الإسلامية، كمجلة «المنار» الشهرية نفسها التي كانت تصل الى الكويت، وكانت كذلك على رأس الصحف غير المرغوب فيها عندهم!
وننتقل مع د.عايد في رصده بعض الكتب المهداة للمكتبة وأسماء أصحابها بعد افتتاحها في «بيت العامر»، ثم جلب جميع كتب «الجمعية الخيرية العربية» الكويتية من «بيت البدر»، والاشتراك في بعض الصحف ومنها «البلاغ» و«الأهرام» و«المقطم»، وكلها مصرية، و«القبس» السورية وغيرها.
وينقل د.عايد عن المؤرخ «الرشيد» إشادته بالإهداءات المحلية، إذ يقول «تبرع محسنو الكويت للمكتبة ودعموها معنويا، وجُمع في ساحتها الكثير من الكتب النفيسة التي تبرع بها المحسنون».
ويضيف الباحث: «ومن بين الذين أهدوا المكتبة أيضا السيد عبداللطيف ياسين الطبطبائي بتاريخ 10 جمادى الأولى 1341هـ 28 ديسمبر 1922م كتابا بعنوان: (الهيئة البهية في الكرة الأرضية)، والمطبوع في المطبعة الأميركانية في بيروت عام 1910م، والذي يتناول علم الجغرافيا، حيث يحتوي الكتاب على صور وخرائط». (ص106).
وقد تصفحت نسخة من كتاب «الهيئة البهية في الكرة الأرضية»، ورأيت في صفحة العنوان صورتين للكرة الأرضية وقارات العالم القديم والجديد مكتوب تحتها «يُعلق الأرض على لا شيء»، وهو اقتباس من «سفر أيوب» بالكتاب المقدس (26/7)، والكتاب من طباعة، المطبعة الأميركانية، في بيروت سنة 1910 وهو يقع في 128 صفحة، وفيه عشرات الصور، ومجموعة من الخرائط الملونة الجميلة الرسم والكثير من المعلومات الجغرافية التفصيلية.
ووقفت عندما جاء في كتاب «الهيئة البهية في الكرة الأرضية» عن الأرض وحركتها فرأتيه يقول «الأرض جسم مستدير شبيه بالكرة مسطحة ناحيتها». ثم يورد مؤلف الكتاب، واسمه غير مذكور في أي صفحة من صفحات الكتاب، خمسة أدلة على كروية الأرض منها «أن الأفق في كل محل من الأرض على شبه دائرة» وأنه «عندما يخسف القمر نرى ظل الأرض الواقع عليه في شبه دائرة»!
ونمضي قليلا في قراءة هذا الكتاب، حيث كان بعض معلومات الكتاب محور الخلاف في ذلك الزمن!
وجاء في الكتاب عن حركة الأرض «للأرض حركتان حركة يومية وهي تتم بدورانها على محورها من الغرب إلى الشرق وينتج عن هذه الدورة تعاقب الليل والنهار، أما الدورة الثانية فسنوية وهي تتم بدوران الأرض مرة كل سنة حول الشمس، ولذلك سموا الأرض مع سبعة من النجوم سيارات لأنها تسير حول الشمس، وسموا النجوم البواقي ثوابت لأنها تظهر للعين ثابتة لا تتحرك».
ولفت نظري ما جاء في كتاب الجغرافيا هذا تحت بند «أديان البشر» في ص12 مثلا، أن «الدين علاقة بين الإنسان وخالقه وشعوره بما يجب عليه له، والأديان في الأرض كثيرة متنوعة، فمن الناس من يعبدون مصنوعات أياديهم ومنهم من يعبد الأجرام السماوية كالشمس والقمر والمريخ، ولكن الدين الحقيقي والعلم الحقيقي متفقان على أن الإله الذي يجب أن نعبده واحد هو الله القادر على كل شيء والموجود في كل الوجود الأب الرؤوف الذي يعرف أولاده ويسمع صلواتهم».
والكتاب صادر عن دار نشر مسيحية تابعة للفرقة الإنجيلية، ويعدد الكتاب ص13، حجم أتباع كل دين بما فيها الأديان الآسيوية كالبوذية والكونفوشية، ثم يتحدث عن المسلمين ويقول إن عددهم 225 مليون نسمة (اليوم عددهم أكثر من مليارين و36 مليونا) واليهود تسعة ملايين (اليوم نحو 15 مليونا)، ولا يضع الكتاب المسيحيين في خانة واحدة، فالكاثوليك، ويسميهم الكتاب «البابوية» أي أتباع «البابا»! ثم «الإنجيليون»، وبعدهم المسيحيون الشرقيون وغيرهم، ويقدر الكتاب عدد المسيحيين بمختلف فرقهم بنجو 785 مليون نسمة. (اليوم ملياران و600 مليون).
ويتحدث الكتاب عن مختلف أمم العالم، ويقول عن «اليابان» مثلاً إنه «لم يبق من شعبها القديم المسمى (إينو) سوى ثلاثين ألفا، ويضيف أن بقية سكانها «مزيج من الصينيين والماليين»، أي شعوب الملايو، ويقول إن اليابانيين «شعب نشيط يحبون العلم ولهم استعداد فطري للصناعات ولغتهم تختلف عن الصينية لكن أحرف الهجاء فيها لا تختلف عن تلك إلا قليلاً». يتبع، ، ،