تأملات رجل هرم
روى أحد رواد العمل السياسي العربي، وهو على فراش المرض، رؤيا رآها في منامه، سارت مذهباً فكرياً لمقربين منه.
يقول: رأيت فيما يراه المرء في منامه، ولم أكن طوال حياتي ممن يؤمن بالرؤيا ولا رواياتها، ومع ذلك اعتبرت ما رأيت من رؤيا أمراً يستحق الإمعان والتوثيق والرواية، وها أنا أسرد تلك الرؤيا، فقد رأيت حصاناً أدهم محجلاً قد أفلت من خطامه، ليعود إلى طبعه حصاناً مارداً كأنه لم يروّض!
وتذكرت بمناسبة هذه الرؤيا اتفاقنا المستمر أنا والرفاق، في مهاجمة بعض الخصوم السياسيين وأحياناً الدين والمتدينين، بشكل متكرر وبلا تنسيق، ومن ذلك مقولة أن الدين يمثّل رجعية، خلافاً للتقدم، ومصدراً للتزمت، خلافاً للتسامح.
أما مهاجمة الخصوم المتدينين فكانت وسيلة للنَّيل من سمعتهم والتقليل من قدرهم والتحريض عليهم، بحق ومن دون وجه حق.
وإذا بي وأنا في خضمّ تلك الرؤيا أسمع صهيلاً مستمراً لخيل، وفجأة تمرّ لحظات هدوء مطبق، فدفعني فضول رؤياي تلك إلى أن أتابع حركة ذلك الحصان المتمرد، فإذا به يشتد في صهيله حينما يشاهد حيوانات غريبة ومخلوقات آدمية ممسوخة هيئتها تبعث على الريبة والخوف وبالقرب منها ألسنة لهب!
وحينما يمرّ الحصان بالقرب من مصبات المياه المتدفقة وتحيط بها أناسيّ كثيرة يغتسلون بها ويشربون منها ويلهون فيها، يقف ذلك الحصان بهدوء تام أمام ذلك المشهد المهيب!
وإذا بالحصان يتجه لمسار بين أشجار متشابكة إلى جنّة غنّاء، وأنا أتابعه، فإذا به يدخل وسط ذلك المسار الملبّد بغيم كثيف منخفض وبمنظر جميل، فترددت حينما اقتربت منه بالدخول فيه، ثم واصلت مسيري ودخلت، فإذا بي أشعر بقشعريرة في بدني، وبصوت ينادي ببحّة واضحة، الحقيقة الساطعة أن أمامك مسارين، فإمّا مسار الحيوانات الغريبة والمخلوقات الآدمية الممسوخة التي تبعث على الريبة والخوف، وبقربها ألسنة اللهب! أو مصبات المياه المتدفقة التي تحيط بها جموع الناس في سعادة غامرة تغتسل بها وتشرب منها وتلهو فيها!
واستيقظت من نومتي وقد تصببتُ عرقاً من تلك الرؤيا المذهلة، وحينما رويت رؤياي لحكيم، قال لي: «إنه نذير خير لك حتى لا تتنكّب الطريق القويم فلا تخسر نفسك ولا تظلم ولا تتبلَّ ولا تسئ للدين، ولا لمن يكون متديناً، واستبدل ذلك بوزن أعمال كل إنسان بميزان في كفتيه مزاياه وعيوبه، وأن تكون الكفّة الراجحة هي أساس حكمك عليه، لا هوى ولا موقف مسبق، وفي معية كل ذلك عليك أن تتغافل بعفوية، بلا اندفاع أو تجنٍّ»، خلافاً لما كنت أفعل كثيراً أنا ورفاقي.
ومنذ ذلك اليوم تغيّرت مسيرة حياتي وعُدت أدراجي شخصاً معتدلاً ومتسامحاً، وذاك هو سلوك الخيرين والمنصفين، وحافظت على صلاتي، وصرت متوازناً في حكمي على الناس، ولاسيما الخصوم!
وقد رأيت تأثراً شديداً فيمن حولي ورفاقي بعد أن أنصتوا لرؤياي وشهدوا هذا التحول الكبير في حياتي، فقطعت على نفسي عهداً برواية هذه الرؤيا علّها تلامس خيراً كامناً في إنسان تنكّب الطريق، أو قلّد غيره بالسير بذلك الطريق، مردداً قول الله تعالى: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ».