الإخفاقات «المتناهية الصغر» في الكويت... لا تليق بدولة!

تسريب الاختبارات وحريق المنقف وانقطاعات الكهرباء صور لمشاهد مخيفة من التراجع
• ما تنفقه البلاد على البنى التحتية والخدمات يفترض أن يرفع مستوى التحديات والتطلعات

نشر في 27-06-2024
آخر تحديث 26-06-2024 | 19:26

تعاني البلاد في السنوات الأخيرة تزايد حالات الإخفاق في قضايا «متناهية الصغر» لا تستحق أن تكون أزمة تشغل بال أي دولة تتمتع بثروات ومؤسسات هي الأقدم بالمنطقة مثل الكويت.

فعلى الرغم من أن شهر يونيو الجاري شهد ثلاثة إخفافات كانت محور اهتمام الرأي العام، مع أنها من حيث الأصل يفترض ألا يمثل أيّ منها تحدياً أو اهتماماً للدولة ومؤسساتها، ليس لعدم أهميتها فهي نتاج سنوات وعقود من الإهمال والتراجع والفشل الإداري والتنظيمي، إنما لأن الدول بالأصل تهتم بالسياسات والاستراتيجيات ذات النظرة المستقبلية.

تسريب وقطع

فلا يليق بدولة تنفق 2.2 مليار دينار، أي 6 في المئة من ناتجها المحلي على التعليم العام - ضمن الأعلى في العالم - أن تنشغل بقضية تمثل فجوة في عمق النظام التعليمي كتسريب الاختبارات، فيما يفترض أن تنشغل بتطوير التعليم وتنمية حصة التكنولوجيا في مكوناته وربط مخرجاته بسوق العمل المتزايد في صعوبته وتحولاته، أو أن تنفق البلاد 3.2 مليارات دينار على ميزانية وزارة الكهرباء والماء أي 8.6 في المئة من الناتج المحلي (منها مليارا دينار على احتياجات الطاقة) لتتعرض الكويت لأزمة متوقعة لا مناص من تفاديها خلال السنوات الأخيرة، مع أن المنطق أن تتركز جهود الوزارة في تطوير وتنويع منظومة الإنتاج الكهربائي وخفض تكاليفه وجودة توزيعه، إلى إعداد الدراسات عن آثار النمو السكاني والتركيبة السكانية والتوسع العمراني، ناهيك عن التغير المناخي على استدامة الطاقة لعقود وليس سنوات ماضية، وهذا كله بعيد كل البعد عما يشغل بال وزارة الكهرباء والماء حالياً من «قطع مبرمج» أو مناقصات طارئة يخشى أن يكون بعضها خارج إطار الشفافية المالية والفنية.

حريق وارتباك

بل إن الإجراءات التي جاءت كنتيجة بعد كارثة «حريق المنقف» من إزالة مخالفات السكن الاستثماري وإعادة اكتشاف - ليست لأول مرة - ظروفه الصحية والمعيشية والأمنية عالية المخاطر والعشوائية وتحوله إلى مرافق للتخزين والمتاجرة هي بديهيات يفترض أنها لا تشغل بال أي متخذ قرار، فالأولوية هي لرفع كفاءة العمالة واستقطاب الماهرة منها والعمل على سياسات توطين ما يمكن توطينه من فرص عمل في القطاعات النفطية والطاقة والخدمات وغيرها... ناهيك عن إعلان الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب إلغاء التعليم الحضوري والاستعاضة عنه بـ «الأونلاين» ثم العودة عن القرار خلال أقل من 24 ساعة، إنما يعكس ارتباكاً لا يليق بدولة ولا مؤسسات أكاديمية!

مشهد مخيف

ولعله من الواجب القول، إن هذه النماذج الثلاثة «تسريب الاختبارات - حريق المنقف - انقطاعات الكهرباء» هي نماذج خاصة بالشهر الجاري من العام الحالي، لكن ثمة أمثلة عديدة على أن هذه النوعية من الأزمات متناهية الصغر هي حالة عامة نتيجة ترهل الإدارة التنفيذية وعجزها عن معالجة الأهم فالمهم فالأقل أهمية، حتى أصبحت الأحداث الاعتيادية تشكل أزمات وفجوات يصعب التعامل معها على المدى القصير على الأقل، وهي في حقيقتها ليست قضايا كبرى بقدر ما هي صور مشاهد مخيفة من التراجع تكشف جانباً من تدهور جودة الإنفاق وضعف إدارة الموارد، لا سيما عندما يكون بعضها كتسريب الاختبارات مرتبطاً بمستقبل البلاد وأبنائها.

البلاد بحاجة إلى مشروع دولة حقيقي يعالج قضاياها وتحدياتها لا نتائجها أو تبعاتها

فمشكلات مثل الحصى المتطاير وحفر الشوارع ناهيك عن «دروازة العبدالرزاق» أقل من أن تكون قضية أو مشكلة، لكنها تحولت خلال سنوات إلى شغل شاغل للقطاعات المشرفة على البنية التحتية للبلاد وأهمها وزارة الأشغال وهيئة الطرق مع أن المفترض أن يكون التركيز والاهتمام منصبين على بنية تحتية عالية الكفاءة ومشاريع متطورة، كالمترو وتحديث النقل الجماعي وغيرها من الخطط التي تستوعب النمو السكاني والتوسع العمراني المفترض، خصوصاً أن الكويت منذ أزمة الحصى وحفر الشوارع قبل 10 سنوات أنفقت أكثر من 4 مليارات دينار على الطرق والشوارع.

بيئة محفزة

ونماذج المشكلات الصغيرة والمتناهية الصغر في البلاد لا تكاد تحصى، كأن تدخل الدولة نفسها في أزمات كطرف ولمدة لا تقل عن ثماني سنوات بما يعرف بأزمة العمالة المنزلية أو أن تتدهور أوضاع شركة الخطوط الجوية الكويتية من أن تنشغل بدورها المفترض كمشغل شبه سيادي - طالما لم تتم خصخصتها - في تسويق الكويت وتوسع شبكة محطاتها ورحلاتها إلى قضية لا تكاد تستحق عملاً يومياً في أي شركة طيران أخرى هو «هيكلة قطاع التسعير وضبط أسعار التذاكر» علاوة على خلو مؤسسات الدولة الاقتصادية المهمة كالتأمينات وهيئة الصناعة وحماية المنافسة وهيئة الشراكة ووحدة التحريات المالية وغيرها من مؤسسات الدولة الاكاديمية كجامعة الكويت والهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب وعشرات الوزارات والأجهزة والهيئات من القياديين، مما يجبرهم على التعامل مع القضايا المحدودة والصغيرة وغير المهمة وليس العمل برسم الخطط والاستراتيجيات وتنفيذها أو اتخاذ أي قرارات مهمة... وهذا ما يجعل الإدارة العامة على الدوام أمام بيئة محفزة - صنعتها لنفسها - للمشكلات الفرعية والثانوية والأصغر حجماً وأهمية.

الإدارة العامة صنعت لنفسها بيئة محفزة للمشكلات الفرعية والثانوية والأصغر حجماً والأقل أهمية

تحديات لا تبعات

ما تحتاجه الكويت لحاضرها ومستقبلها أكثر أهمية مما تنشغل فيه من قضايا صغيرة وأخرى متناهية الصغر، فنحن بحاجة إلى مشروع دولة حقيقي يعالج إخفاقات واختلالات السنوات والعقود الماضية أي يعالج قضاياها وتحدياتها وليس نتائجها أو تبعاتها، أي يتجه مباشرة إلى انفلات وهدر المصروفات العامة وتنويع الإيرادات وتدهور الخدمات كالتعليم والإسكان وتطوير النظام التعليمي بما يناسب متطلبات سوق العمل ومعالجات التركيبة السكانية وإعادة تعريف دور القطاع الخاص وتحديد فائدته للاقتصاد وترشيق القطاع العام ورفع كفاءته وتطوير بيئة أعمال المشروعات الصغيرة ليكون حاضنة لتشغيل الشباب الكويتي... هذه هي أبرز القضايا الجادة التي تستحق أن تشغل بال الإدارة العامة في البلاد، ودونها سنظل غارقين في القضايا المتناهية الصغر بلا تطور أو تنمية.

back to top