«... لا أستطيع الكتابة من غير التعرّض للناس»، كان هذا ما كتبه الروائي الأيرلندي جيمس جويس للناشر رتشارد. وأضاف: «ولو تم إجباري على كتابة روايات من غير الإثارة (التعريض) التي تمنعونها، لما كتبت أبداً».

لم يجد جيمس، صاحب رواية أوليسيوس (عوليس - أو أوديسيوس)، ناشراً لروايته دبلنرز (أهل دبلن)، التي عرضها للنشر عام 1909، ووافق على نشرها الناشر رتشارد، لكن الأخير اشترط عليه أن يغير عبارة وصف فيها الملكة فكتوريا بـ «البومة التعسة» (الترجمة الحرفية هي البومة الدموية - بلودي أول)، التي ماتت بعد أن قضت زمناً طويلاً على العرش الملكي، وورّثت العرش لابنها الأمير إدوارد، بعد أن اشتعل رأسه شيباً، فكان رد جويس على رجاء الناشر أن غيّر عبارة البومة الكريهة أو التعسة إلى «الكلبة التعيسة».

Ad

لم تتجاوز مبيعات قصة دبلنرز السبعمئة وخمسين نسخة، مما أثار سخط الكاتب الكبير وحيرته، فكان عزاء صديقه الروائي أزرا باوند له «... كم من الناس الأذكياء الذين يقدّرون الأدب الرفيع في إنكلترا والولايات المتحدة تتوقع؟! لو كنت تكتب لهؤلاء الأذكياء فقط، فهل تتصور أنك ستبيع أكثر من مئة ألف نسخة...؟!».

كان جويس على قناعة ثابتة بأن القارئ المثالي يعاني دائماً مرض عدم القدرة على النوم من وطأة القلق، مثله حين يضع رأسه على المخدة في المساء كمثل المحب الذي ينتظر رسائل الغرام الملتهبة في اليوم التالي. كان جويس يعامل القراء كأنهم عشاق متيّمون.

نفهم من تلك الومضات السريعة عن جويس، التي تم اختيارها من كتاب «أخطر كتاب في العالم، لكيفن برمنغهام، وترجمتها بتصرّف»، أن الفن أو الأدب ليست به معايير عرفية أو قانونية لتقييمه، وإنما هو «إما أن يكون فناً جميلاً مبدعاً أو لا»، وتنسب تلك العبارة لأوسكار وايلد.

والأمر الآخر هو أن الأديب أو الكاتب لا يسعى بشكل دؤوب باحثاً عن أي نوع من القراء، كما هو حادث لدينا، ويأخذ في نشر كتاباته بوسائل التواصل الاجتماعي، وإهداء كتبه ورواياته لكتّاب صحافيين كي يمتدحوها ويصبح كاتبها مشهوراً، وهي شهرة خواء، وإنما قلة من القراء الواعين يدركون معنى الكتابة المبدعة يكون كافياً، فلم تتجاوز بيع قصص كافكا المثيرة حين وفاته غير القليل جداً، وأوصى صديقه بحرقها بعد وفاته، ومات ولم يتجاوز الثلاثين أو الأربعين عاماً، وكان من حُسن الحظ أن رفيقه لم يأخذ بتنفيذ وصيّته، بل جمعها ونشرها لتبلغ شهرتها الآفاق.

وأخيراً، إن الرقابة سواء كانت اجتماعية أو سياسية حين تمارَس من عقول متحجرة تخشى السلطة وتهاب رد الفعل الشعبي المتكلس، هي قاتلة للإبداع والتجديد، فعبر هذه الرقابة، أياً كان مصدرها، ومن خلالها، يتم قبر العقل النقدي الجدلي، ويتم تحنيط الوعي الإنساني كي يدفن في مقابر «يا رب لا تغير علينا»!