لا يكاد مجلس من المجالس العامة والخاصة التي تتخالط فيها الأجيال المتفاوتة في الأعمار يخلو من ترداد عبارات مفادها أن الماضي كان أجمل من الحاضر والحياة كانت أبسط والسعادة كانت أكبر وأوضح... فهل ما يتردد يعكس الحقيقة بشكل قاطع وحاسم أم أن الأمر يحتمل النظر اليه من زاوية أخرى؟

الواقع، وبخلاف بعض الاستثناءات التي قد تفرضها الظروف على الأفراد أو المجتمعات، فإن ما يحرك مشاعر الإنسان في الماضي كما في الحاضر هو الفطرة التي خلق عليها بنو البشر، فالطفل كان وما زال يسعد بالحصول على القليل مما يحب، والبالغ مهما واجه من صعوبات سرعان ما يتأقلم جسدياً ونفسياً مع حلو الحياة ومرّها.

Ad

المسألة إذاً نسبية، فالراحة والسعادة ومتعة الحياة تحددها مقاربة كل شخص لروتين يومياته وتفاصيل حياته، فالعامل الذي كان في الماضي يكسب قوته بعرق جبينه، قد يرى في سعيه الدائم شقاءً مستمراً، أو قد يراه- على العكس من ذلك- صحة وعافية... أما الجالس في عصرنا الحالي على كرسي وثير، فقد يشكر الله على نعمة الراحة والعمل من خلف الشاشة، أو قد يضع نفسه في دوامة التأفف الدائم من ضعف النظر وآلام المفاصل والأمراض المزمنة المرتبطة بعدم الحركة لساعات!

***

يعزو علم النفس ارتباط المرء بماضيه وانحيازه الإيجابي لتفاصيله كافة- حتى السلبية والصعبة منها- الى ما يطلق عليه علمياً مسمّى «النوستالجيا» أي الحنين الى الماضي الذي يشكّل ملاذاً آمناً لكل من يخوض غمار الحاضر بصعوباته وتحدياته والقلق من الآتي بعده.

«النوستالجيا» هي آلية دفاعية تستخدمها أدمغتنا لتحسين المزاج والتخفيف من ضغوط الواقع، إذ عندما تتراكم الالتزامات وتكثر التحديات المجتمعية والثقافية والاقتصادية، وعندما تكون عملية التكيّف صعبة أو مرهقة نفسياً وجسدياً- وخصوصا لدى فئات عمرية معينة مثل كبار السن- يهرب المرء الى كل ما يعتبره سعيداً في ماضيه وجميلاً في تجاربه السابقة، فيعيش حنيناً للظروف والأزمنة والأمكنة التي طبعت في وجدانه وذاكرته بقعاً من ضوء مبهرة، ويعبّر عن ذلك بمقارنة تكون مجحفة بحق الحاضر.

فعندما تسيطر على البالغ مشاعر الخوف والتوتر، المنظورة وغير المنظورة، تراه بشكل تلقائي يستذكر طفولته المتحللة من أي مسؤولية، والمرتبطة بمشاعر الطمأنينة وسكينة الأمان في أحضان الوالدين ومع المحبين من الأهل والأصدقاء الذين كان يشاركهم تفاصيل طفولته البريئة، والتي لا يراها الا سعيدة.

هذا وقد ثبت علمياً أن للنوستالجيا فوائد صحية ونفسية، إذ تساعد في مواجهة الاكتئاب وتعزيز الثقة بالنفس وتؤثر إيجاباً في بلوغ النضج الاجتماعي الذي ينمّي مقدرة المرء على التأقلم والتكيّف مع التحولات الحياتية المتسارعة وخصوصاً في عصرنا الحاضر.

هذا التفسير العلمي لقاعدة تعلّق الأجيال في كل زمان ومكان بماضيهم على حساب حاضرهم، لا يخفي أن الإنسان المعاصر الذي يقارع تحديات العولمة، ويعيش قلق الثورة الرقمية، ويفتقد للقيم التقليدية، ويعاني هيمنة النمط الاستهلاكي، هو في حنين دائم للماضي الذي لا يريد أن يستذكر منه إلا بساطة مجتمعاته وتقارب ظروف عائلاته ومتانة روابط الاجتماعية.

إلا أن ذلك لا ينفي أن الماضي كان في كثير من الأحيان ميداناً لكثير من الآلام ومشاعر الخوف والقلق الوجودي المرتبطة بالحروب والفقر والجوع وبدائية الطبابة وتزمت الأفكار ووحشية بعض التقاليد، وتحكم الجهل بكثير من مهارات ومعارف البشر، كما أنه لا ينسينا أن التركيز الدائم على الماضي، والشعور بالحنين إليه، قد يعوقنا عن التقدم وبناء مستقبل أفضل، إذ بدلًا من إضاعة الوقت في المقارنة بين الماضي والحاضر، يجب أن نُسخّر طاقتنا للتفكير في كيفية تحسين المستقبل.

***

خلاصة القول أن النظرة التقييمة للماضي والحاضر تشبه كثيراً مقاربتنا لتطورات واستخدامات التكنولوجيا الحديثة، فإما سنتعامل معها على أنها أداة فاعلة لتسهيل الحياة ولتقريب المسافات وتطوير العلوم وتعزيز الرفاهية، وإما سنقاربها بشكل سلبي قاطع يحصرها فيما قد تسهم فيه من خلق العزلة وتفكيك الأسر وتفتيت المجتمعات... وفي كلا الحالتين فإن ذلك سيشكل مخزوناً وافراً من السمات الإيجابية أو السلبية لحاضرنا الذي سيصبح ماضياً في المستقبل.

وأكاد أجزم أن البسمة التي سترتسم على محيّا الشاب المعاصر عندما سينقل لأحفاده ذكرياته عن «بساطة» ألعابه الإلكترونية، وعن سعادته في قضاء ساعات طويلة مع الأتراب أمام الـ«بلاي ستيشن»، وعن جاذبية اكتشاف خفايا الهاتف المحمول وسحر التواصل من خلاله... لن تكون أقل رونقاً من بسمة استذكار البعض ألعاب الماضي البدائية، ومتعة التسابق في الأزقة، ودفء جلسات السمر مع العائلة في الشتاء المعتم، ولذة الاستماع الى حكايا الجدود والجدّات!

* كاتب ومستشار قانوني.