عندما كتب أحد «الإنفلونسرز» في أميركا وآخرون في أوروبا من الفنانين والمشاهير والمهتمين بالشأن الإنساني ما معناه «كنا نتصور أننا نحرر غزة وجدنا أن غزة تحررنا»، لم يستوعب الكثيرون منا المعنى رغم أن الأحداث المتسارعة والتطورات التي قسمت العالم بأكمله، فإما أن تكون مع الحق، ويعني ذلك مع فلسطين، أو تكون مع المحتل وإبادته وتطهيره العرقي ولا ثالث لهما.
بقيت تلك الجملة بين كثير غيرها من التي تكررت وبرزت حتى وضحت الصورة أكثر فأكثر كما رأينا وتابعنا وكتبنا، وقد يفسر كل فرد فعل التحرر هذا على طريقته أو ما يعايشه، فمثلاً الأكاديميون والطلاب وكثير من المدافعين عن حقوق الإنسان وجدوا أنهم استطاعوا للمرة الأولى أن يكشفوا عن ذاك الوجه الإجرامي لما يسمى دولة إسرائيل، وكثير منهم كانوا على علم وعايشوا كل جرائمها لكن المنظمات الصهيونية وأتباعها طاردوهم، فلم يرتح لهم بال إلا ومن ينتقدهم يفصل من عمله ويطارد في قوت يومه وعياله وكل أهله، أما المفكرون فتمنع كتبهم في تلك المجتمعات نفسها التي «صدعتنا» في تكرار حديث سمج عن حرية التعبير والحق في المعرفة والرأي والرأي الآخر.
حتى أعلامهم عندما تحدث الكثيرون منا، إعلاميون ومراقبون ومتابعون، عن أن «حياديتهم» ما هي سوى كذبة تحولت إلى مادة دسمة في مناهج تدريس الإعلام والصحافة في جامعاتهم، وما لبثت أن انتقلت إلى جامعاتنا فصدقناها أو كدنا!!!
في السنوات، ليست البعيدة كثيراً، تكشف إعلامهم مرة ومرات وبقينا محافظين ومرددين أن إعلامهم أي الإعلام الأميركي والأوروبي وحتى الإسرائيلي-الصهيوني هو إعلام منفتح، وأنه لا رقابة عندهم ونحن من أكثر الشعوب معرفة بالرقابة على أنواعها وفجاجتها في الكثير من الأحيان، بل ربما قبحها وتخلفها وجهلها حتى في فن ما يمكن أن نسميه «اللعبة الإعلامية الحديثة».
حررت غزة كثيراً من الإعلاميين في العالم، فبعضهم خرج علناً مندداً بالمؤسسات «العريقة» التي يعمل أو عمل لديها، وآخرون كان في فصلهم من وظائفهم كمحررين ومراسلين وفناني كاريكاتير ومصورين، خير مثال على أن إعلامهم كما حكوماتهم ومؤسساتهم كلهم ليسوا أحراراً بل عبيداً!!
سقطت مؤسسات كان العرب أكثر من يقول عنها، ومنذ سنين طويلة، إنهم يأخذون أخبارهم منها كالـ«بي بي سي» التي، وحسب كثير من الاستطلاعات القديمة منها والحديثة، بقيت المحطة الناطقة باللغة العربية الأكثر استماعا، ثم التلفزيون الأكثر مشاهدة حتى ساهمت في نشر الأكاذيب التي لم تكن كارثية وكاذبة فقط، بل أدت أيضاً، وفي الكثير من الأحيان، إلى استهداف المستشفيات ومراكز الإيواء والجامعات والمدارس والمرافق العامة، على أنها مقرات لما يسمونه «الإرهابيين» أو أسلحتهم، فسقطت حتى تلك المذيعة العريقة التي التقيتها في الكثير من المناسبات والتغطيات، وكنت حتى «طوفان الأقصى» أحترمها بشدة، وأحياناً أعطيها صفة «الصديقة» رغم أنني أدرك أنها تتقن «لعبة» البقاء في محطتها التلفزيونية العريقة!!! ألم تقل إن أحد المستشفيات هو مقر لمقاتلي «حماس» فما كان من الجيش الصهيوني سوى أن قصف المستشفى حتى آخر قطرة دم لطفل أو جريح أو طبيب أو ممرض أو مسعف؟ أين هي الآن؟ هل تستطيع أن تنام قريرة العين ويسجل لها التاريخ «مهنيتها» الرائعة؟ أم أنها خسرت كل ما عملت من أجله لسنين وسنين؟
ولم تكن هي الوحيدة، فكثير منهم سقط وكثير منا، أي من الكتاب والمذيعين ومقدمي البرامج على المحطات «العربية»، سقطوا أيضا حتى أن بعضنا منحهم أسماء وألقاباً ربما هي الأقرب لدورهم ولوصف محطاتهم، فصعب علينا بعد كل هذه الإبادة أن نراهم بعين أنهم عرب مثلنا ومثل أهلنا في فلسطين أو حتى مسلمين أو مسيحيين، لم تتعبهم مشاهد الموت أمام عدسات الكاميرات وأصوات الأطفال تردد «استشهد كل أهلي... كل عيلتي».
لم تتوقف الحرب الإعلامية الكونية على فلسطين ولبنان واليمن، بل هي مستمرة كما اتضح مما ينشر مؤخراً وبشكل ممنهج في التحضير لحرب كبرى على لبنان من أخبار في صحف بريطانية عريقة كلها كذب، وعندما يكشف كذبها ترفع التفاصيل من الخبر فقط لا غير، فما تقوله كتبهم في الإعلام هو أن عليهم الاعتذار ورفع الخبر كله، أو أن يضعوا صوراً لمطار بيروت وهو مكتظ بما يصفونه بالمسافرين الهاربين خوفا من «حرب الإبادة» القادمة لا محالة، حتى يتبين أنها صور قديمة جداً، وهي للمغتربين اللبنانيين في عودتهم بعد مواسم الإجازات، ولم يكتفوا بذلك بل هم وعلى مواقعهم وفي برامجهم يكررون أن كل الزوار قد تركوا لبنان واللبنانيين في حين مطاعم وفنادق وشواطئ لبنان مكتظة و... و...، ولا أحد يتحدث عن عدد الإسرائيليين الذين غادروا منذ السابع من أكتوبر، ولا الأعداد الهائلة التي غزت قبرص واليونان وغيرها من الدول الأوروبية بحثا عن منزل للإيجار خوفا من القادم، ربما صار لازماً أن أعيد ما كتبته مراراً وفي مناسبات عديدة من الحروب الصهيونية بل الكونية على لبنان، وهي ما كان يردده اللبنانيون دوما «نحن بخير طمنونا عنكم».
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.