«الماضي هو ما يصنعنا، يخلقنا دائماً، لا أعتقد أن الماضي شيء مقيت وإنما هو كالنبع الذي لا يتوقف عن العطاء... أعرف أني في الثمانين من عمري، وقد أموت في أي لحظة، لكن حتى تحين تلك اللحظة لا أملك غير الأحلام، الأحلام التي تتحول إلى كلمات... قد يكون بها أخطاء، لكني لن أعتذر عنها أبداً» (بورغيس في الثمانينيات).
مضى زمن طويل على غياب الأديب الشاعر بورغيس، وتبقى كلماته محفورة في الوعي، لا يعاني بورغيس من «نستولوجيا» الحنين للماضي، وإنما يؤكد لنا أنه في عالم الفكر والأدب تبقى الذكريات مصدر إلهام وعزاء في الوقت ذاته لصاحبها. هل يعني ذلك أن هذا الحاضر، الذي يصبح ماضياً بكل لحظة تمضي حين نشعر أن الزمن يتدفق كالنهر على مقولة هيراقليطس، أضحى بائساً؟ بائساً بسبب مشاعر الغربة التي يحيا بها الإنسان اليوم، هذا الإنسان هو «بيبي بومر» – تعبير أميركي عن الذين وُلِدوا بعد نهاية الحرب الثانية أو الستينيات من القرن الماضي- كهول وعجائز يشعرون بوحشة من غياب التواصل الإنساني، غياب لروح الألفة، المسافات المكانية أضحت بعيدة، لا يوجد فريج، لا توجد جمعة للأسرة والأصدقاء والأقارب... روح «الأنا» هي ذاتي السابحة في ذاتها، وهمومي تخصني وحدي... لا أحد يدري عني ولا أدرى عن غيري.
هل يعرف أبناء اليوم في عالم الاستلاب الاستهلاكي كيف يكتبون؟ هل يعرفون كيف يخطون كلمات الحب الرقيقة؟ الرسائل الورقية تلاشت، ماتت ودفنت في قبور التكنولوجيا وكأننا من صنعناها ولسنا غير مجترين لها لا أكثر. الموسيقي اللبناني نبيل مروة يقول في مقال له بموقع درج «لخطنا المكتوب على الورق قدرة نسبية على التعويض عن غيابنا الجسدي أمام المرسل إليه، إذ يكاد أن يقرب المسافة والزمن الفاصلين بين متراسلين...» ويضيف نبيل: «أعرف أن بي شوقاً لكتابة رسالة أوجهها إلى شخص ما، أخطها بقلم الحبر على الورق الأبيض، ومن ثمة أضعها في مغلف ورقي وأرميها في صندوق البريد، وأكثر ما أفتقده هو استلام رسالة في صندوق بريدي...».
أي رسائل وأي صناديق بريد رحلت إلى عالم الفناء تتحدث عنها يا نبيل؟! «أي ميل» أسرع... لماذا تكتب كلمة أحبك... لماذا تبعث لها (أو له) كلمات الشوق وتعبر عن ألم الفراق؟! وردة حمراء من «إيموج» تعني كل شيء ولا تعني أي شيء... رسم وجه محتقن أو يبتسم يعني الغضب أو الفرح، إبهام للأعلى يعني التأييد... انتهت الحروف والكلمات، تم تجويف اللغة... معانٍ تعسة هي مدلولات من غير دلالات بليغة.
من يلوم فلاسفة ومفكرين رحلوا كيف أنهم خشوا وتنبؤوا بزمن تضيع فيه الروح الإنسانية الجميلة... حذروا من عالم الرموز الخرساء والآلة الصماء... نحن نغرق فيه الآن بعد أن تبدد عالم الأحلام والخيال والجمال ونسينا وجودنا.