حطمت بريطانيا كل الأرقام القياسية السيئة في عام 2022، مع انهيار عملتها إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق، وتسجيل أكبر ارتفاع في عائدات السندات الحكومية على الإطلاق، فيما شهدت البلاد أقصر فترة لبقاء رؤساء الوزراء في الخدمة على مر التاريخ.
اندلعت الأزمة في سبتمبر بسبب خطة رئيسة الوزراء آنذاك ليز ترَس، غير التقليدية لخفض الضرائب وزيادة الاقتراض، في محاولة لتعزيز النمو الاقتصادي. غير أن هذه الأزمة كانت تختمر على مدى سنوات، ولم تنته بسقوط ترَس بعد 6 أسابيع من توليها المنصب.
اصطدم عدم الاستقرار الحكومي واضطراب التجارة بسبب الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، بتحديات هيكلية، جعلت المملكة المتحدة عرضة للتقلبات المفاجئة في تدفقات رأس المال على المستوى العالمي.
1 - كيف ساء الوضع في المملكة المتحدة؟
- حتى قبل خطة السياسات المشؤومة لترَس، كان اقتصاد المملكة المتحدة متخلفاً عن نظرائه. تلقّى الاقتصاد البريطاني ضربة أقوى من جائحة كورونا مقارنةً باقتصادات أوروبية عديدة غيره، جزئياً بسبب اعتماده بشكل أكبر على الخدمات وإنفاق المستهلكين، وهما القطاعان اللذان تأثرا سلباً بالإغلاقات المتكررة.
وقادت المملكة المتحدة حملة مقاطعة صادرات الطاقة من روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، ثم عانت من التداعيات الناتجة عن التضخم العالمي، الذي زاد التوترات الاجتماعية والفقر سوءاً، وتسبب في اضطرابات عمّالية، ما أثّر على السكك الحديدية وخدمات الصحة والكليات، وعلى أكبر شركة اتصالات هاتفية في البلاد.
واقتصاد بريطانيا، هو الاقتصاد الرئيسي الوحيد الذي لا يزال أصغر حجماً مما كان عليه قبل الجائحة. تخطى اقتصاد الهند نظيره البريطاني مؤخراً كأكبر خامس اقتصاد في العالم. وخلال نوفمبر الماضي، حلّت بورصة باريس محل بورصة لندن كأكبر سوق للأوراق المالية في أوروبا.
2 - ما الذي فجّر الأزمة؟
- بعد فترة قصيرة من تولّي ترَس رئاسة الوزراء خلفاً لبوريس جونسون، كشفت حكومتها عما كان من الممكن أن يصبح أكبر تخفيضات ضريبية خلال نصف قرن، دون طرح خطة مقنعة لتمويلها. هددت هذه الإجراءات بتفاقم التضخم، في الوقت الذي رفع فيه بنك إنكلترا، إلى جانب بنوك مركزية أخرى، أسعار الفائدة لمكافحة ارتفاع الأسعار.
وبعد الإعلان عن هذه الخطط، طالب المستثمرون بعوائد أعلى لشراء السندات الحكومية، ما فاقم تكلفة خدمة الدين على الحكومة، وجعل من الصعب عليها تسديد الأموال التي اقترضتها خلال الجائحة. جعلت أزمة السندات أيضاً قروض أنشطة الأعمال والرهن العقاري للمنازل، أعلى تكلفة، كما دمّرت سمعة حزب المحافظين، الذي تنتمي إليه ترَس، فيما يخص الإدارة الاقتصادية السليمة.
3 - لماذا تأثرت الأسواق بشدة؟
- هوت الخطة بالعملة البريطانية إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق مقابل الدولار الأميركي، كما تسببت في ارتفاع قياسي لعائدات السندات. سبَّب ذلك مشكلة لصناديق المعاشات التي تمتلك غالباً ضمن حيازتها سندات حكومية، كما تستثمر في المشتقات لضمان أن أصولها تُعادِل دوماً التزاماتها.
ولم تكن استراتيجيات التحوّط الخاصة بالصناديق مُصمّمة للتعامل مع هذا المستوى من تقلبات أسعار السندات، وواجهتها مطالب مفاجئة بتقديم مزيد من الضمانات التي هدّدت بدفع الدين الحكومي إلى دوامة الهبوط. تدخَّل بنك إنكلترا واشترى السندات لمنع حدوث انهيار في أسواق الائتمان.
4 - ما التداعيات؟
- أسفر تدخُّل البنك المركزي عن تهدئة السوق، فيما استقالت ترَس، وأُلغيت معظم خططها. لكن العوائد على السندات الحكومية لأجل 10 سنوات استمرت أعلى ب 35 نقطة أساس في نوفمبر، مقارنة بالفترة التي تولّت فيها الحكم أوائل سبتمبر.
وهذه التجربة الفاشلة، تركت خليفة ترَس، ريشي سوناك، بحاجة إلى تطبيق تخفيضات أكبر في إنفاق الدولة، وضرائب أعلى لاستعادة المصداقية المالية للحكومة. من المرجح أن ذلك سيسحب الزخم من اقتصاد أضعفه بالفعل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2020. ووفقاً لمكتب مسؤولية الميزانية المستقل، من المتوقع أن يكون حجم تجارة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي أقل بنحو 15% على المدى الطويل مما لو ظلت في الكتلة.
وسجّل النمو في إنتاجية البلاد، والذي يعني الإنتاج الاقتصادي لكل ساعة عمل باعتباره مفتاح تحسين الأوضاع المعيشية، ثاني أقل نسبة ضمن مجموعة الدول الصناعية السبع بين 2009 و2019. ويقول منتقدو الحكومة، إن هذا «العقد الضائع»، هو سبب التخفيضات في التعليم والتدريب المهني والاستثمار في البنية التحتية.
5 - ما الوضع الآن؟
- أعادت المشكلات في بريطانيا إحياء ذكريات عام 1976، عندما احتاجت الدولة قرضاً من صندوق النقد الدولي لتجنب أزمة عملة. يقول بعض الاقتصاديين إن الدولة بدأت تشبه سوقاً ناشئة، إذ أن تقلبات العملة تسببت في تدهور أوضاع الديون والسياسة، لدرجة أن المستثمرين أصبحوا يعزفون عن دخول السوق إلا إذا جرى تعويضهم بعوائد أعلى.
ووصل عجز ميزان الحساب الجاري، الذي يشمل الفارق بين قيمة الصادرات وواردات السلع والخدمات، إلى 7.2% من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من 2022، وهو الأعلى منذ بدء التسجيل في 1955، ما يجعل البلاد أكثر عرضة لتقلبات السوق إذا ما حدثت أزمة ثقة.
وفي العادة، كانت المملكة المتحدة قادرة على تمويل العجز، إذ كان الأجانب مشترين نهمين للأصول البريطانية، جزئياً بفضل اقتصاد ديناميكي وتطبيق سيادة القانون بكل حزم. إلا أن هذا الوضع سيكون موضع اختبار، حيث يتوقع الاقتصاديون أن تتجه المملكة المتحدة نحو أعمق وأطول فترة ركود بين دول مجموعة السبع.