تقرير اقتصادي: ملاحظات «فاتف»... تكشف ثغرات الجرائم المالية بالكويت
تجنُّب تردي البلاد إلى القائمة الرمادية مسؤولية أساسية لمجلس الوزراء تستوجب إحياءه «وحدة التحريات»
• الإعلانات المشبوهة مازالت قادرة على اختراق جهات التنظيم والرقابة والانتشار في الشوارع!
• الأسوأ في تفشّي غسل الأموال تشجيعها الحصول على «أموال سهلة» دون إنتاج أو إبداع أو تعليم
أعاد تلويح مجموعة العمل المالي العالمية «فاتف» بوضع الكويت على القائمة الرمادية، فيما يتعلق بمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب، الضوء مجدداً على حالة الجرائم المالية في البلاد ومدى كفاءة السلطات الرقابية والتنظيمية بضبطها ومعالجتها.
ومجموعة «فاتف» هي منظمة حكومية دولية أسست عام 1989، وتضمّ 200 دولة ومنظمة ومجموعات العمل المالي الإقليمية، إلى جانب الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والإنتربول ومجموعة «إيغمونت» لوحدات الاستخبارات المالية.
وتتولى متابعة تطبيق الدول للتوصيات الخاصة في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلح، وتعزيز التعاون فيما بين أعضاء المجموعة والمنظمات والمؤسسات والهيئات الإقليمية والدولية للالتزام بهذه المعايير، وتبادل الخبرات في شأنها، وتطوير الحلول للتعامل معها للحد من الجرائم المالية والسياسية، فضلاً عن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بفاعلية، بما لا يتعارض مع القيم الثقافية للدول الأعضاء وأطرها الدستورية ونظمها القانونية.تقرير «فاتف» يكشف ضعف كفاءة «الإحصاء» و«التجارة» في توفير البيانات التجارية الحديثة
متابعة متزايدة
أما اللائحة الرمادية التي لوّحت «فاتف» بنقل تصنيف الكويت إليها، فهي تضمّ المعروفة بالدول الخاضعة للمتابعة المتزايدة من قبل «فاتف»، أي الدول التي تعمل مع مجموعة العمل المالي لمعالجة أوجه القصور في أنظمة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلح، حيث تتعهد هذه الدول باتباع خطة العمل المحددة للوفاء بمعالجة أوجه القصور لديها خلال مدة معيّنة، وهي درجة أفضل من اللائحة السوداء التي تضم الدول المرتفعة المخاطر التي لديها أوجه قصور استراتيجية في نظام مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلح، والتي تدعو مجموعة العمل المالي جميع الدول الأعضاء إلى اتخاذ تدابير مضادة بحقها.
وبشكل عام، تمحورت متطلبات مجموعة فاتف على عدد من القضايا، أهمها وجود آلية توضح البيانات والإحصاءات والأرقام المتعلقة بعمليات التجارة في البلاد، وحماية القطاع غير الربحي، وربما يُقصد به العمل الخيري من إساءة استخدام تمويل الإرهاب، والتركيز على منع إساءة استخدام الأشخاص الاعتباريين للتعاملات المالية، فضلاً عن عدم تجميد الأصول المشبوهة، رغم أن المجموعة اعتبرت أن الكويت لديها الإطار القانوني والإشرافي للمعالجة، مشيرة إلى أن الكويت بحاجة إلى تحسين فهمها للمخاطر وتعزيز محاكمات الجرائم.توصيات اللجنة الوزارية المشكلة عام 2020 لتعديل قانون غسل الأموال ورفع كفاءة «التحريات المالية» لم ترَ النور
ضعف الكفاءة
ومن دون التوسع في سرد مبررات مجموعة فاتف، فإنّ الحديث عن التصنيف ضمن المنطقة الرمادية يفتح الباب لنقاش حالة الجرائم المالية في الكويت، ومدى جدية جهات الرقابة والتنظيم في التعامل معها، فهو من ناحية يكشف ضعف كفاءة المؤسسة الإحصائية الأهم، وهي الإدارة المركزية للإحصاء، إلى جانب وزارة التجارة والصناعة، في توفير البيانات التجارية الحديثة، ومدى قدرة النظم الرقابية على منع تعاملات الكيانات المشبوهة والوهمية داخل البلاد، فضلا عن سلامة التحويلات المالية، خصوصاً إلى الخارج، مع الأخذ بعين الاعتبار درجة الشمول المالي في المجتمع.
فضائح واختراق
ومع أن الكويت عانت كثيراً خلال العقد الماضي أو أكثر قضايا مثّلت فضائح مالية مشبوهة هزت الرأي العام، كالإيداعات المليونية، والتحويلات، و«ضيافة الداخلية»، وصندوقي الجيش والماليزي، والنائب البنغالي، والتاجر الإيراني، إلى جانب قضايا النصب العقاري وعشرات القضايا المرتبطة بالمشاهير وغيرهم، إلا أنه لا يزال ممكناً لإعلان مشبوه - لمرتين خلال أشهر قليلة - يروّج لاستثمارات ومشاريع واكتتابات مخالفة للقانون، أن يخترق جميع جهات التنظيم والرقابة في البلاد من وزارات وهيئات وأجهزة، لينتشر في الشوارع موجّهاً لمئات الآلاف من مرتادي الطرق، وكأن الكويت لم تمرّ بأي تجربة بشأن الفضائح المالية المشبوهة.
سمعة وتحريات
ولعله من المفيد القول إن الجهة التنفيذية المختصة بتنفيذ القانون رقم 106 لسنة 2013 بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب هي وحدة التحريات المالية، التي لا تزال منذ 6 سنوات تقريباً تدار بالتكليف، بلا رئيس أصيل - مثلها مثل العديد من الجهات الحكومية - إلا أن لهذا الوضع غير المستقر ضريبة على مهنية وأداء وكفاءة الوحدة ليس كغيرها من الجهات، إذ ينعكس على سمعة النظام المالي في البلاد حال تم وضع الكويت في القائمة الرمادية، أو حتى وضعها تحت قواعد المراقبة المشددة.
الغريب أنه في يوليو 2020 شُكّلت لجنة وزارية لـ «دراسة أوجه القصور وتعديل قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ورفع كفاءة وحدة التحريات المالية، وتدعيم استقلاليتها، وتعزيز صلاحياتها وأدواتها»، ووضعت اللجنة تقريرها في وقت سريع، إلّا أن توصياتها لم ترَ النور مُذّاك... واللافت أن وضع الكويت على القائمة الرمادية لـ «فاتف» سيعني إعادتها لنفس الوضع الذي كانت عليه قبل إقرار القانون عام 2013!الكويت عانت كثيراً خلال العقد الماضي من قضايا مثّلت فضائح مالية مشبوهة هزت الرأي العام بلا معالجات جوهرية
ثمن وضغوط
وربما يعتبر البعض الجرائم المالية أمراً ثانوياً ما لم يمسّ الأموال العامة، وهذا أمر بعيد عن طبيعة النظام المالي والمصرفي، فما يمكن أن تتعرض له الكويت، حال ساءت سمعتها كمنفذ سهل للعمليات المالية المشبوهة، لا يمكن تقديره فقط بحسابات الغرامات المالية المتوقعة - وهو أمر وارد - بل يمتد الى ما هو أعمق من ذلك، فالعقود الماضية تخبرنا بأن النظام المالي العالمي - مهما كانت التحفظات بشأنه - اتّسم بدرجة عالية من التشدد تجاه العمليات المالية المشبوهة، والتي لا نريد أن تدفع الكويت واقتصادها أو حتى سيادتها جزءاً من ثمنه أو ضغوطه، كما أن تفشّي ضعف الاستجابة لتطويق هذه المخاطر يؤثر على تصنيف الكويت في المؤشرات العالمية، فضلاً عن أنه يخفض جذب الاستثمارات الأجنبية الضئيلة أصلاً في البلاد، إضافة إلى رفع درجة التحفظ والضغوط على الاستثمارات السيادية وحركة التبادل التجاري بين الكويت والعالم.
الأموال السهلة
غير أن الأسوأ على الإطلاق هو أن وجود بيئة تسمح بغسل الأموال يشيع فكرة الحصول على «الأموال السهلة» الناتجة عن عمليات مجرّمة أو مشبوهة، وبالتالي يصبح النموذج في الاقتصاد موجّهاً لهذا النوع من العمليات، على حساب أي استثمار حقيقي تكنولوجي أو صناعي أو صحي أو إنتاجي، أو تعليمي أو أكاديمي، لأن الأنشطة المشروعة لا تعطي عوائد العمليات المالية المشبوهة، ومن ثم تظهر طبقة طفيلية من الأثرياء لا تقدم للمجتمع أو الاقتصاد أي منتج نافع، ولشيوع هذا السلوك ضرائب اجتماعية وأخلاقية تتجاوز نظيرتها الاقتصادية المرتبطة، مثلاً، بالتضخم أو انحدار القيمة المضافة في السوق، أو المخاطر المتعلقة بالعملة الوطنية.
ثمة كثير مما يمكن أن يقال حول وجوب التعامل مع تلويح «فاتف» بوضع الكويت على القائمة الرمادية، إلا أن هذا الأمر لن يكون ذا قيمة ما لم يكن على رأس أولويات مجلس الوزراء بمعالجة الثغرات ووضع الحلول، عبر وضع سياسة عامة لتجنّب أي احتمال لوضع الكويت ضمن القائمة الرمادية، وأولها إحياء وحدة التحريات المالية، وليس قرارات أو مبادرات فردية أو لجان من وزير هنا أو قيادي هناك.