من صيد الخاطر: من لطيف الحوار
في اللغة العربية يستطيع المرء المتمكِّن تزيين حواره، والتفنن فيه، ليجذب المستمع والقارئ إليه، حتى لو كان حواره مزعوماً بين بهائم، وهذا يدل على جمال اللغة العربية وسلاستها، وسهولة التحادث بها، للمتمكِّن منها على وجه الخصوص.
ومن أمثلة ذلك، ما روت العرب مما جرى على ألسنة حيوانات من حِوار شيِّق ولطيف مصورين فيه ببراعة واختصار كيف كانت الأحكام في زمانهم تصدر في المنازعات البسيطة.
فقد وَجدت الضَّبُعُ تَمرةً فاخْتَلَسها الثعلبُ، فلَطَمتْهُ، فلَطَمها، فانطلقا يتحاكمان إلى الضَّبِّ، فقالا: يا أَبا حِسْلٍ، قال: سَميعاً دعوتُما، قالا: جِئناكَ نَختَصِم، قال: في بَيْتِه يُؤْتَى الحكمُ، فقالت الضَّبُعُ: خرجتُ أَتَمَشّى، قال: فِعْلَ الحرةِ فعلتِ، قالت: فالتَقَطْتُ تَمرةً، قال: حُلواً جَنَيْتِ، قالت: فاخْتَلَسها الثعلبُ، قال: حَظَّ نَفْسِه بَغَى، قالت: فلَطَمْتُه، قال: حقاً قضيتِ، قالت: فَلَطَمني، قال: حُرٌّ انْتَصَرَ، قالت: اقْضِ بيننا، قال: قد قَضَيْتُ.
فالقاضي أَبوحِسْلٍ، لم يَقْضِ بشيء، فكل ما فعله أنه في حواره هذا قد أقنع المتخاصَمَين بأن كلاً منهما قد أخذ حقه، وانتهى الأمر، وليكتفيا بذلك.
هذا الحوار المنسوب إلى البهائم من الأدب الجاهلي، ولا علاقة له، كما يعتقد البعض، بالأدب الفارسي أو الهندي، فهو أتى سابقاً بمئات السنين كتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع، الذي تتحدث فيه البهائم فيما بينها بأحاديث لها مغزى شبيهة بما بدأ بها العرب، وهناك حوارات منسوبة إلى البهائم، أبرزها عن أبي الحِسْل، فرويت حوله حوارات له مع الضبع والثعلب والجمل والعصفور والحرباء، وهي حوارات مليئة بالنصح والحكم، نَقَلَ منها لاحقاً أبوالفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني».
وهناك حوار شيِّق آخر حَصَلَ مع خالد بن الوليد لمّا قَدِمَ إلى اليمامة نَزَل بعسكره على قصر من قصور الحيرة، يُقال له قصر بني بَقِيلة، فسألهم أن يبعثوا له رجلاً من عقلائهم وذوي أنسابهم، فبعثوا له عبدالمسيح بن بَقِيلة، فأقبل يدُبُّ في مشيه، فقال له خالد: أين أقصى أثرك؟ فقال: ظهر أبي، فقال خالد: من أين خرجت؟ قال: من بطن أمي، فقال: علام أنت؟ قال: على الأرض، فقال خالد: فيمَ أنت؟ قال: في ثيابي، قال: تَعْقُل؟ قال: وأقيِّد، أي وأكتب، فقال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل وامرأة، قال خالد: كم أتى عليك؟ قال: لو أتى عليَّ بشيء لقتلني، قال: كم سنُّك؟ قال: ستٌّ وثلاثون، فقال خالد: ما رأيتُ كاليوم، حتّامَ، أي مراوغ، أسألك عن شيء وتجيبني عن غيره! قال الرجل: ما أجبتُك إلا عمَّا سألت.
وابن بقيلة هو عبدالمسيح بن عمرو بن قيس الغسّاني، وهو شاعر من الحيرة، ومن الدّهاة المخضرمين، عاش في الجاهلية زمناً طويلاً، وأدرك الإسلام، لكنه ظل على النصرانية، كان مشهوراً بالكلام المليء بالألغاز.