تناولت في مقالي المنشور على هذه الصفحة يوم الأحد الماضي تحت عنوان «تجديد الخطاب الديني... لنتجمل بالإسلام ونزهو ونفخر به ونلوذ»، «الإطار السياسي لتطوير الخطاب الديني».
وقد حرصت في مقال اليوم على أن أستبدل بعبارة «تجديد الخطاب الديني» وهو عنوان المقال السابق عبارة «تجديد الفكر الديني» وهي العبارة التي اختارها الأزهر الشريف في مؤتمر عالمي إسلامي عقده في يناير سنة 2020 تحت هذا المسمى، وذلك حتى لا يصطدم بعنوان المقال السابق، ويكون الأزهر الشريف هو المتحدث الرسمي بالخطاب الديني.
وكنت قد استهللت المقال السابق، بما استطاعت معه المقاومة الإسلامية (حماس)، التي اعتبرها الغرب وما زال حركة إرهابية، أن تجدد الخطاب الديني في السابع من أكتوبر الماضي، وأنهيت المقال بالمقارنة بين حماس وبين أحداث الإرهاب التي وقعت أخيرا ضد كنيستين مسيحيتين ومعبد يهودي، حيث تساهم هذه الأحداث في تشويه هذه الصورة.
وكنت قد آليت على نفسي ألا أخوض في التأصيل الفقهي أو الشرعي- في الإطار السياسي لهذا التجديد- فيما كتبت في المقال السابق وفي كل ما كتبت خلال العقود السابقة، والذي قد يكون محل اختلاف بين الفقهاء أنفسهم، إلا للضرورة وبقدرها، لنتجمل بالإسلام ونزهو ونفخر ونلوذ به.
شكراً للأخ فيصل الزامل
تفضل الأخ الزامل مشكورا باستحسان ما كتبته في مقالي الأحد قبل الماضي دفاعا عن الإسلام، بوجه عام، والعقوبات الشرعية بوجه خاص، من أن هذه العقوبات طائر في سرب أو رافد في نهر، وأنه لا يجوز الحديث عن الطائر دون الحديث عن سربه أو الحديث عن الرافد دون الحديث عن نهره، وأن هذا السرب أو النهر هو العدالة الاجتماعية، وزودني، مشكوراً، بفتوى منشورة في كتاب: (فتاوى علماء البلد، ص483-484) لفضيلة الشيخ محمد بن عيثمين، رحمة الله عليه، من تأصيل فقهي للمسألة التي طرحتها من إيقاف سيدنا عمر بن الخطاب الحد في عام المجاعة، لأن من شروط إقامة الحد على السارق، ألا تقوم في جريمة السرقة شبهة تمنع إقامة الحد، بما يبرئ سيدنا عمر، من إيقاف حد من حدود الله.
والأخ فيصل الزامل يجمع بين كونه من المجتهدين في الفكر الإسلامي فيما ينشر من مقالات، ومن العاملين أيضا في الحقل الاجتماعي، وله مساهماته في مساعدة الأسر الفقيرة في نجوع وقرى مصر من خلال جمعية النجاة الخيرية الكويتية، بالتعاون مع جمعية الأورمان في مصر وجمعية مصر الخير، ولجمعيته مشروع باب خير كل جمعة (مشروع علاج القدم السكري)، فلا غرو أن تكون له هذه المداخلة الطيبة التي جعلتها محور مقال اليوم في:
درء الحدود بالشبهات
حيث يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «ادرؤوا الحدود بالشبهات». وهو المبدأ الذي يقوم على أساس مبدأ إسلامي آخر هو افتراض البراءة في الإنسان في قوله سبحانه «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»، وقد أصبح هذان المبدآن هما قوام العدالة الجنائية في الفكر القانوني الجنائي المعاصر، بعد قرون طويلة من إقرار الإسلام لهما.
وكنت على يقين من أن سيدنا عمر قد بنى قراره بإيقاف الحد في عام المجاعة على أن المجاعة، التي اجتاحت البلاد في هذا العام، تقوم معها شبهة، لا تتوافر معها شروط تطبيق حد السرقة، وسيدنا عمر القائل، «لأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة».
وقوله سبحانه مخاطباً رسوله، صلى الله عليه وسلم: «وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»... وقول المولى عز وجل «وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ»، والعدل هو بعض ما أنزل الله إلينا في كتابه الكريم، بل هو أسمى ما أنزله... وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة».
ويقول الإمام أبو مسلم الخولانى: «إذا عدلت مع أهل الأرض جميعا وجُرت في حق رجل واحد فقد مال جورك بعدلك».
العدل بجناحيه السياسي والاجتماعي
وقد كان سيدنا عمر ملتزماً في فترة خلافته بجوهر الحكم في الإسلام الذي يقوم على الشورى والعدل المطلق، بجناحيه العدل السياسي والعدل الاجتماعي، وسيرة عمر، رضي الله عنه، في تطبيق جوهر الإسلام في العدل السياسي والاجتماعي– خلال فترة حكمه– لا تتسع لها المقالات بل لا تكفيها مجلدات.
وقد كان سيدنا عمر «رضوان الله عليه»، يضع في اعتباره وحسبانه مصلحة الأمة، بأجيالها المتعاقبة، والتي تقوم على فكر العدل بين هذه الأجيال كلها، فاستشار الصحابة في أن يوزع الغنائم من الأراضي المزروعة بعد فتح العراق، ثم بعد فتح الشام، بمقدار الخُمس للجند والباقي لبيت المال، فلم يوافقوه على رأيه، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد معركة خيبر فعل العكس، عندما نزلت عليه الآية الكريمة في قوله سبحانه وتعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ». فقد اعتبر سيدنا عمر هذه الآية، وسنَّة النبي في تطبيقها بعد النصر الذي حققه الجيش الإسلامي في خيبر حكماً اختص الله به الجنود في بداية الفتوحات الإسلامية، أما وقد رسخ الإيمان في قلوب الجند المجاهدين فإن أيلولة أربعة أخماس الأراضي المزروعة إلى بيت المال واختصاص الجنود الفاتحين بالخُمس فقط، هو العدل المطلق لصالح الأمة بأجيالها المتعاقبة.
ومع ذلك فإن سيدنا عمر لم ينفرد بالرأي فأرسل إلى عشرة من كبراء الأنصار، خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج وجمعهم قائلا لهم «إني لم أزعجكم إلا لتشتركوا في أمانتي فيما حملت وتقرون بالحق خالفني من خالفني ووافقني من وافقني»، ثم استطرد مشيراً الى كلام الجند ومن رأى رأيهم والذين اتهموه بأنه ظلمهم فقال «قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، وأني أعوذ بالله أن أرتكب ظلما! لئن كنت ظلمتهم شيئا هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت».
وقد قال سيدنا عمر لمن خالفوه في الرأي بعد فتح العراق وبعد فتح الشام، كما قال لمن استشارهم من الأوس والخزرج: «إذا فعلت ما ترونه أترك من بعدكم المسلمين لا لشيء لهم» ثم يقول «والله ما يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل»، بل عسى أن يكون كَلا على المسلمين، فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها فماذا تسد به الثغور؟ وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أرض الشام والعراق؟ فقالوا له بعد أن تشاوروا في الأمر «الرأي رأيك، فنعم ما قلت، ونعم ما رأيت».
يقول أبو يوسف في كتاب «الخراج» إن «اجتهاد عمر في هذه المسألة كان «توفيقا من الله» وفيه كان الخير لجميع المسلمين، وفيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين عموما النفع، لأن هذا لو لم يكن موصوفا على الناس في الأعطيات والأرزاق لم تشحذ الثغور ولم تقو الجيوش على الجهاد».
وهكذا كان اجتهاد عمر وكانت عدالة عمر، عدالة لا تقف عند العدل بين رعيته، الذين هو مسؤول عنهم عملا بقول «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، بل عدالة سيكون غيره من الخلفاء مسؤولا عنها، عدالة تشمل مصلحة الأمة كلها، بكل أجيالها المتعاقبة، مما أقنع من خالفوه في الرأي عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وطلحة والأنصار العشرة الذين أتى بهم يستشيرهم.
وهو ما يعتبر– في رأيي– تطويرا للفكر الديني في الإسلام سواء في تطبيق الحدود أو في توزيع الغنائم. (لطفاً يرجى الرجوع في تفاصيل هذه المسألة إلى مقالي المنشور في «القبس» في عددها الصادر في 15/ 4/ 2002).
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.