تحت عنوان «جسر النعمانية» صدرت رواية جديدة للأديب المغربي عبدالنور مزين، الذي جذب أنظار القراء والنقاد إليه منذ صدور عمله الروائي الأول «رسائل زمن العاصفة»، وجرى ترشيحها للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2016، وها هو يعبر بنا إلى جسر جديد ينقلنا به إلى رحاب تجربته السردية المائزة.

لقد استطاعت الثورة الرقمية أن تجسر المسافات بين الشعوب عبر ثورة غير مسبوقة في وسائل التواصل وما أتاحته من إمكانية سيطرة غير مسبوقة، وإعادة تشكيل فكر ووعي شعوب خارجة لتوها من مراحل طويلة من العبودية والرق والاستعمار المباشر، وما تبعها من سيطرة استعمارية غير مباشرة التي كرست تبعية مطلقة لسرديات غربية تروم السيادة وإسكات كل الأصوات التي أنتجتها ذاكرة الرق والاستعباد.

Ad

بالإضافة إلى عملية التجسير تلك، وعبر تنامي الوعي بالهويات التي كانت في مراحل الاستعمار تتماهى مع حركة التحرير والانعتاق لتجعل من الهويات الوطنية رموزاً للمقاومة وجسوراً نحو الاستقلال الوطني، تنامت تلك الأبعاد الهوياتية في مختلف تجلياتها، كما حددتها سرديات الغرب الفلسفية والسوسيولوجية والدراسات الأنثروبولوجية وغيرها، لتغدو أدوات جديدة من ضمن أدوات وأشكال السيطرة الجديدة التي تقع الثورة التكنولوجية والرقمية في القلب منها.

ضمن هذه السياقات العامة، وعبر طرح أسئلة متعددة تهم بالخصوص الهوية كبعد من أبعاد الذات بارتباطها بتشكل وتبلور «الأنا» في ارتباطاته المعقدة بذلك «الآخر» المختلف والحيوي أيضاً لتحديد الذات و«الأنا»، تحاول رواية «جسر النعمانية» للروائي المغربي عبد النور مزين، التي صدرت أخيراً عن منشورات سليكي خوين طنجة، المغرب، على امتداد 654 صفحة من القطع المتوسط، الغوص في متاهات الهويات وصراعاتها وتأثيراتها في نمو وتطور واستقلالية شعوبنا على امتداد جغرافياتنا.

اتخذت الرواية من بلدة النعمانية وجسرها الممتد على نهر تيماثان الذي يخترق البلدة ويقسمها إلى جزء شرقي وآخر غربي، بداية ومركزاً لأحداثها ونقطة ارتباط لتطوراتها. بلدة النعمانية التي كانت مسرحاً لغارات خلفت دماراً وضحايا أدت إلى نزوح وشتات الكثير مما نجا من تلك الغارات.

كانت عائلة السعيد من العائلات التي قضت ولم ينجُ منها إلا هو وخالته الصافية والجدة نوارة التي قضت هي الأخرى قبل أن تتوارى النعمانية عن ناظريها وهي على طريق النزوح.

عائلة تزيري، صديقة السعيد في المدرسة، والتي لم تتجاوز العاشرة، نزحت هي الأخرى لتتوالى الأحداث على طول محطات الشتات. مضى السعيد وتزيري، كل واحد منهما على طريق شتاته الخاص به، يحملان من النعمانية ذاكرة القصف والأشلاء والتوق والحنين أيضاً إلى ضفاف النهر والجسر ودفق أحاسيس الطفولة والصبا التي عاشاها معا هناك.

تعقدت الأحداث لتتطور إلى تناحر على شكل ميليشيا امتدت لتشمل كل جغرافية البلد. لم تحدد الرواية أي بلد ليظل بلداً متخيلاً بكل تفاصيل مدنه وبواديه، بحاره وجغرافيته، وتفاصيل حياته السياسية والاجتماعية في ارتباطاتها مع الأبعاد الهوياتية التي انتصبت كخلفيات لوحدات سياسية واجتماعية مجسدة في النشيدين المتضادين كمرجعية لتنظيمين من الميليشيا وهما الذئاب القرمزية والذئاب البيض.

في هذه الأوضاع غير المستقرة والتي تتغذى أساساً على مفاهيم ذات أبعاد هوياتية شكلتها بدرجات مختلفة التأثيرات المختلفة للتاريخ والإرث الاستعماري الذي خلفته حقب الاستعمار المتتالية إضافة للصراعات الجيوسياسية التي تتداخل فيها تأثيرات السرديات الغربية ولعبة الأجندات والتوازنات السياسية على المستويين العالمي والإقليمي. كل هذه التمظهرات تتجلى في الرواية من خلال تطور الأحداث وتفاعل مختلف المتدخلين والفاعلين سواء كانوا فاعلين محليين أو خارجيين وعبر قنوات وأشكال مختلفة لعبت فيها الارتباطات ما بعد كولونيالية والوسائل المتطورة للثورة الرقمية ووسائط التواصل الحديثة أدواراً مهمة وأساسية.

أمام كل هذه المعطيات والتحديات التي تواجهها مجتمعاتنا من المحيط إلى الخليج وكل عموم شعوب الجنوب، حاولت الرواية طرح أسئلة عديدة وذات ملحاحية حول الأدوار التي يمكن أن يلعبها التنوع الثقافي والهوياتي داخل مجتمعاتنا كمحددات أساسية بارزة تركز عليها السرديات الغربية عبر الآليات الجديدة التي أتاحتها الثورة التكنولوجية والرقمية وعولمة الاتصال من أجل السيطرة والتحكم وتفتيت الهويات الوطنية لمجتمعاتنا.